TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > منطقة محررة: المقاوم هذه المرة إلى ... أبو حالوب

منطقة محررة: المقاوم هذه المرة إلى ... أبو حالوب

نشر في: 6 مارس, 2018: 06:26 م

لم يبق أحد أميناً للنادي القديم، إلا صمد الدين محمدونوفيك، ليس لأنه رجل عنيد، إنما لأن الأمر بالنسبة إليه له علاقة بفلسفته للحياة، من الصعب عليه تخيل حياته دون المكان القديم، صحيح إن بقية زملائه انتقلوا إلى مكان آخر، إلى الجزء الشمالي من المدينة، الحي القديم، إلا أنه أكثرهم مواظبة على المجيء هنا، هذا هو ديدنه مع كل علاقاته القديمة، ليس بما يتعلق بهذا المكان وحسب، بل بالمدينة كلها؛ فرغم المصائب التي حلت بالناس، وبزملائه من كل الطوائف، بالرغم من التراجيديا الشخصية التي عاشها هو ذاته : سقوط زوجته قتيلة بنار أحد القناصين، وموت ابنته الوحيدة بحادث سيارة، وهجرة معظم أفراد عائلته ، إلا أن القاص والروائي صمد الدين محمدونوفيك يشعر بأن جذوره في هذه المدينة، كلا لا يريد الذهاب إلى مكان آخر. في الحقيقة يصعب عليه الانفصال عن إنسان أو عن شيء ارتبط به أبداً، الانفصال يعني له الموت، وهنا، كلما عاد للمكان القديم، يشعر بأنه ليس الوحيد الذي لم يمت، إنما المدينة أيضاً.
المكان الذي يعني لمحمدونوفيك الكثير، والذي زارته مجموعتنا (وفد اتحاد الإعلام الألمان)، هو "نادي الكتّاب في ساراييفو"، المتكون من صالة شتوية كبيرة وحديقة خلفية جميلة ( ذكرني شخصياً بمبنى اتحاد الأدباء في بغداد قبل إطباق الكوارث على البلاد العراقية هناك)، والذي يقع على بعد عشرين متراً من فندق "الهوليدي آن" ومبنى البرلمان السابق في ساراييفو. "الهوليدي آن" الذي كان مكان الصحفيين والوفود الأجنبية إبان حرب البوسنة والهرسك، وعلى مدى سنوات حصار ساراييفو الثلاث، أعيد ترميمه الآن، على عكس مبنى البرلمان، الذي ما زال بدون ترميم، يقف شاهقاً مثل هيكل عظمي.
في تلك الأيام ورغم القصف الشديد، لم يتوقف أدباء البوسنة والهرسك المقيمون في ساراييفو من اللقاء هنا في ناديهم. وفي الصالة الشتوية، التي تجولنا فيها بصحبة أيريش راتفيلدير، الصحفي الألماني المشهور، مراسل التلفزيون في دول البلقان، شاهدنا عشرات الصور التي تؤرخ جلساتهم تلك، أيام الحصار. نوع من العناد الإنساني، أو الجمالي كما أطلق عليه بيتر فايس في ملحمته المشهورة "أستيتيك المقاومة". الإصرار على العيش والصداقة واختراع الأفراح الصغيرة، والكتابة عن كل موضوع تريد الحرب قتله، تلك هي وسائل المقاومة التي يملكها الكتّاب في هذه الأزمان.
في المكان ذاك، جلس كتّاب ومثقفو ساراييفو، يتقاسمون مائدة يأس واحدة، يكتبون ملحمة ساراييفو ضد القوميين، الغزاة واللصوص والمجرمين؛ كانوا يمثلون كل القوميات والطوائف التي تشكل بلاد البوسنة والهرسك: صرب وكروات وبوسنياك كما يصر البوسنيون على تسمية أنفسهم، والتي تعني ترجمتها حرفياً: العربية (بوشناق)،. ساراييفو كانت بالنسبة لهم مشروع حياة، لأنها بالنسبة لهم خلاصة بلاد البوسنة والهرسك، بلد القوميات المتعددة، وسقوطها يعني سقوط ذلك المشروع، لذلك وقف هؤلاء الكتاب إلى جانب إخوانهم بالمواطنة من سكان المدينة الذين أصروا هم الآخرون على مقاومة الغزاة والعنصريين...." إنهم ذاتهم يشكلون اليوم الحركة الأدبية (ساراييفو 99)، وانتقالهم للمكان الجديد لا يعني تخليهم عن مشروعهم الأصلي، أنه نوع من تغيير المكان"، يقول صمد الدين، ربما لأن النادي كان مكاناً رسمياً لاتحاد الكتاب الرسمي، في زمن يوغسلافيا الشيوعية، وسابقاً، كان من الصعب العثور على مكان بديل، كان عليهم الدفاع عن مشروعهم هناك، اليوم باستطاعتهم الذهاب إلى أي مكان الشباب منهم، من فنانين ورجال مسرح وتشكيليين يزورون مقهى المتروبولس، أما هم فيجلسون في عند "ملايكا"، من النادر أن يزوروا المكان السابق، وحده صمد الدين ظل أميناً لعاداته القديمة، الذهاب الى نادي الأدباء في ساراييفو لا أدري عندما رأته، لماذا تذكرت أبوحالوب؟ فلا لا أظن أن المقاوم ابو حالوب كما عرفته منذ أن ألتقيت بهم للمرة الأولى في بغداد قبل قرابة أربعين عاماً، أو كما رأيته قبل ايام بصورة مع صديق الطفولة والشباب كاظم غيلان، سيغير من مكان جلوسه من مقهى الروضة في دمشق إلى مكان آخر، ولا يهم ما سيحدث لدمشق، لسوريا .... وللعالم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram