يبدو العنوان مثار مداولات فلسفية ذات طبيعة قانونية لطالما تناولها منظّرو القانون الدستوري وفلاسفة الأخلاق بالدرس والتحليل ، ويعود بعض أصل تلك المداولات إلى عصر الإغريق ، أما بعضها الآخر فحديث النشأة شاع في عصر بزوغ مفهوم الأمة - الدولة خلال تأسيس الدول الحديثة في أوروبا القرن التاسع عشر .
لكنْ أيّ الثلاثة هو الأكثر أهمية : الأعراف أم الأخلاقيات أم المدوّنات الدستورية ؟ الحقّ إن هذا سؤال في غاية الصعوبة ويستعصي على إجابة محدّدة ، وقد مثّل معضلة إشكالية لفلاسفة القانون ؛ غير أنّ تلك الإشكالية تتراجع قليلاً إذا ماحدّدنا مجال عمل وتأثير كلّ عنصر من تلك العناصر الثلاثة .
تبدو الأعراف في العادة أكثر صلة بتفاصيل الحياة اليومية للناس ، وأكثر قرباً لمعاملاتهم اليومية ؛ وعلى هذا الأساس فهي أقرب إلى نوع من المحدّدات السلوكية غير المدوّنة في نصوص قانونية ، وهي على الرغم من ذلك تملك سطوة القانون وينصاع لها الجميع عن قناعة ، ولو دققنا في التفاصيل الحاكمة لسلوكيات الأفراد في البلدان المتطوّرة لرأينا الأغلبية العظمى منها مُنقادة لموجبات الأعراف السائدة قبل موجبات القوانين والدستور .
أما القوانين فهي صنيعة الدولة وجزء من عملها المرسوم ضمن الشقّ التشريعي في مثلث السلطات المنوطة بالدولة الحديثة ( التشريعية ، التنفيذية ، القضائية ) ؛ في حين أن الدساتير المكتوبة هي القوانين الكبرى التي لاينبغي أن تخالفها كل القوانين السائدة .
إنّ الأعراف الجيّدة ( البعيدة عن الأعراف القبلية السائدة في مجتمعات ماقبل الدولة الحديثة ) هي ما يُعوّل عليها في ترسيخ الأخلاقيات التي تنهض بمستوى حياة الأفراد ، والأعراف قبل ذلك لها العلوية على القوانين والدساتير لأنها تفرض نوعاً من القيود المطلوبة على فعل السوء والإيذاء تجاه الآخرين ، وبالإضافة لذلك فهي تمثّل نوعاً من السلوك اللحظوي الواجب إتخاذه قبل الشروع في مداخلات قانونية من جانب الحكومات ؛ وعليه يمكن اعتبار الأعراف بمثابة مدوّنة سلوكية لاشعورية محفورة في وجدان الفرد وهذا سر سطوتها وقوتها في التأثير.
مادفعني لكتابة هذه المقالة عبارة قرأتها في الفضاء الفيسبوكي الصخّاب جاء فيها ( لاتوجد قواعد ولاأصول على مر التأريخ ؛ فالذي تراه أنت أصولاً يراه الآخرون شيئاً تافهاً والعكس بالعكس ) . كم تنطوي هذه العبارة على الإلتواء المفاهيمي الذي يريد إحالة غياب الأعراف المؤثرة في بيئتنا إلى نوع من النسبية الثقافية والسلوكية التي سادت في أدبيات مابعد الحداثة ، وهنا يحصل خلط السمّ بالعسل والتغطية على غياب الأعراف الطيبة في حياتنا .
إنّ الأصول والقواعد التي وردت في ذلك المنشور الفيسبوكي إنما هي وجه آخر لمفردة تقنية هي ( الأعراف Norms ) ، وهي موجودة حاكمة في كل زمان ومكان . بريطانيا ، مثلاً ، ليس لها دستور مكتوب وهي أعرق الديمقراطيات في العالم وواضعة المسودة الحقوقية الأعظم التي تدعى ( ماغنا كارتا Magna Carta) عام 1832، والقاعدة الموجّهة لتلك الأعراف هي الكياسة ومراعاة حقوق الآخرين ، وتلك من الأعراف البديهية التي وضعها الإنسان تمثلاً بالقاعدة السلوكية العامة التي تشكّل جوهر كل الأنساق الاخلاقياتية ( وحتى اللاهوتية ) والتي مفادها ( إرتضِ للآخرين ماترتضيه لنفسك) ؛ لذا تركن الشعوب كثيراً إلى الأعراف السلوكية وتراها الأساس الذي يُعوّل عليه ، وتأتي القوانين والدساتير لتدعيم تلك الأعراف الطيبة وترسيخ مكانتها في خدمة الصالح العام .
قناديل: أعراف أم أخلاقيات أم دستور مكتوب ؟
[post-views]
نشر في: 10 مارس, 2018: 06:34 م