لست من الذين ياتون بغداد دائماً، أنا زائر متقطع لها، مثل أي عربي يدخلها في مناسبة ما، أو من دون مناسبة حتى، لذا لن تكون نظرتي لها، أبعد من نظرة عين سائحة، ترى الحسن كله في جسر على دجلة، وتغضب الغضب كله لمشهد النفايات في ازقة البتاويين، وبين هذه وتلك مسافة لقول شيئٍ ما.
إعتدت، ومنذ سنوات أن اتناول فطوري عند مطعم صغير، يقدم الكبّة، حارة، طيبة حدّ تذكرها أبد الآبدين، اسمه(مطعم سيمون) يتخذ من ركن في ساحة النصر مكاناً، حيث يقف منتصرا على نفسه عبد المحسن السعدون. في كل مرة أظنُّ المطعم قد أغلق، هكذا، فصاحبه مسيحي، وأعلم ان أغلب المسيحيين هاجروا، وقد يكون أحدهم، لكنني، في كل مرة أستعيد سعادتي بوجوده، اطيل التأمل في وجهه البغدادي، الابيض، المشوب بحمرة من قدموا من الموصل، ذات يوم، وأتخذوا من منازلهم في الضواحي الجميلة مقاماً.
وكنت الرائح الغادي في شارع السعدون، في القطعة من الممتدة بين ساحة التحرير وساحة كهرمانة، وقد توقفت طويلاً أمام محال بيع مستلزمات المعاقين، كراسي متحركة وعكازات ومصاطب وأسرة وحمامات ... مشهد يعود بالمرء الى التفجيرات التي تعرضت لها المنطقة هذه، الى عدد الذين اصيبوا جراء الاعمال الارهابية، التي اجتاجت بغداد قبل سنوات، وعلى الرغم من وجود محال بيع الخمور في المنطقة هذه، على الرغم من كثرة الاندية والحانات والمراقص وبيوت المساج، إلا أن الطمأنينة غائبة، يعلم ذلك زائر المدينة من خلال الكوى الضيقة، التي احدثها اصحاب المحال تلك في أبوابهم، ومن خلال الرجال، ذوي الأكتاف العريضة والسواعد المفتولة الموشومة بالسكاكين والافاعي والجمل الاعتراضية، الذين يقفون على ابوابها، كثيرة الاقفال.
قد تبدو فسحة الامان مطلقة في بغداد ساعات النهار، لكنها ليست كذلك في ليل البتاويين، فمن نافذة غرفتي في فندق "قصر سيوان" حيث أقمت الليلة والليلتين، كنت أسمع صياح السكارى، وتهديد المتخاصمين، وكنت اتوقع أنَّ احدهم سيغيب سكينه في بطن خصمه، هكذا، حيث لم يكن مشهدهم يعني أحداً في سيارة شرطة النجدة، المرابطة في الساحة المقابلة للفندق، كنت أقرأ المشهد قراءتين بصريتين قائلاً: إما أن يكون المشهد هذا تقليديا جداً، لا يتجاوز حدود التهديد بالكلام، ويعرفه رجال الشرطة او أنَّ الشرطة غير معنية بهم، إن قتل أحدهم الآخر، أو لم يقتله، هكذا، كما في معظم المدن العراقية، حيث الشرطي غير معني باحوال الناس، فهو موظف خدمة بسيط ، ينتظر نهاية الشهر ليتسلم راتبه لا أكثر.
لا أريد أن استسلم كلياً لمشاهد محلة البتاويين، فهي لا تسر، لذا ساركب قدميَّ باتجاه شارع أبي نؤاس، هذا الشارع الذي تكرهه الحكومة لا لشي إلا لأن اسمه (شارع أبي نؤاس) هو يذكرها ببغداد هرون الرشيد والمنصور وعصرها الذهبي، لذا فهي تتحين الفرصة لانتزاع كاس التمثال المترع خمراً لتستبدله بمسبحة عيار 101، هكذا كما يتندر البغداديون. لكن، والحق يقال، فالشارع ما زال الاجمل فيها، حيث يمتدُّ دجلة الخالد خيط خضرة وماء الى جانبه، وحيث الليل سمكاً مسقوفاً وزجاجات عرق ابيض، وحيث المراة حاضرة، يحميها أصحابٌ غلاظ، لهم سطوة الاسود على الغابة، هل قلت الغابة؟ نعم، بغداد غابة لمن يدخلها في الليل ، يملكها مجهولون، كانت لهم في الموصل أقدام وأسلحة هزمت الدواعش، لكن، لهم اليوم قبضات واسلحة ونياشين تملك ليل بغداد كله.
قناطر: بغداد العظيمة بين الجمال والغنيمة
[post-views]
نشر في: 10 مارس, 2018: 07:37 م