TOP

جريدة المدى > عام > التاريخ مرايا الجماعات "حبات الرمل.. حبات المطر"

التاريخ مرايا الجماعات "حبات الرمل.. حبات المطر"

نشر في: 12 مارس, 2018: 06:26 م

ناجح المعموري

قال المفكر إدوارد سعيد : يبدو لي أن واحداً من أكبر أدوار المثقفين في المجال العام هو أن يعملوا كنوع من الذاكرة العامة ، أن يتذكروا ما نسي أو تم تجاهله .. أن يذكِروا الجمهور بالمسائل الأخلاقية التي قد تكون محتجبة خلف صخب الجدال وضجته.

يتمظهر هذا الرأي واضحاً في رواية الاستاذ فلاح رحيم " حبات الرمل ... حبات المطر " التي صارت مرآة كبيرة جداً ، عكست لنا مرحلة اجتما - سياسية ، هي من أخطر المراحل التي شهدها العراق الحديث خلال سنوات حكم النظام السابق الطويلة والتي احتشدت بسرديات بالغة الأهمية ، وهي التي صاغت ذاكرة للجماعات ، ذاكرة يجب المحافظة عليها ، من أجل ان تكون مرآة حاضرة ، يرى الأفراد عليها حاضرهم ومستقبلهم ، من هنا ذهب الاستاذ فلاح رحيم للذاكرة عبر السرديات التي اشتغل عليها عبر مشروع مهم " بول ريكور " الزمان والسردية ونبه هذا المثقف البارز والمتنوع للضرورات التي يتوفر عليها السرد بوصفه ذاكرة خازنة لمرويات شفاهية وأخرى مدونة وكأنه يستعيد مقولة سقراط الشهيرة التي تعاملت مع الحياة باعتبارها مروية ومن هنا تأتت حيوية السرد لدى فلاح رحيم الذي وظفه متجاوراً مع الثقافة ، ليجعل منه أحد أهم عناصر الانطولوجيا المعرفية . وهذا مكشوف عنه بوضوح في القنافذ في يوم ساخن وروايته الجديدة الضخمة جداً . " حبات الرمل ... حبات المطر " هذه الرواية بالغة الأهمية لأنها استثمرت الوثائق التاريخية المدونة أو المختزنة بالذاكرة ، كما وظف التخيلات لأنها من ضرورات السرد المتحرك نحو التاريخ . وساهمت هذه الرواية برسم حدود وطنية للهوية المرتهنة بوعي الفرد ، لأنه هو القادر على الذهاب نحو ذلك . الهوية التي نسج تفاصيلها فلاح رحيم ، أيقظها التاريخ المتخيل والمتشارك مع السرد ليبتكر تجلياً قوياً ، تخللته مسافات سببها بنائي وتعددي للشخوص . لذا أستطيع القول إن السرديات التي اشتغل عليها فلاح رحيم بالقوة المتبدية في الرواية هي تعبير انطولوجي عن ذوات الشخوص الكثيرة ولابد من تأكيد على وجود مجاورة متينة ، بمعنى التشارك الاجتما _ ثقافي ، وهي تتعاضد وتتناقض في أحيان عديدة .
إن شعوراً حميماً بالوجود لا يتأكد إلا عبر تجربة خاصة يخالطها إمكان خضوع للآخر الماثل قدام الأنا لحظة التشكيل وإعادة التشكيل للأحداث محطات لازمة لتحديد الهوية / حتم الورفلي / بول ريكور / الهوية والسرد / التنوير 2009/ص33//
الجانب السيّري الواضح في هذه الرواية التي هي العتبة التاريخية الممهددة لروايته الأولى " القنافذ في يوم ساخن " وهذا الانشغال القصدي ، ينطوي على عناية واضحة بتفاصيل الذاكرة وسردياتها ، ليؤكد من خلال ذلك على موقفه المضاد للرأي الاستشراقي الذي قاله إدغار موران في الصفح مقاومة لبشاعة العالم ، في كتاب : المصالحة والتسامح وسياسات التذكر ص49//نقلاً عن نادر كاظم / استعمالات الذاكرة . ويدرك الاستاذ فلاح رحيم ما تعنيه شفاهيات الذاكرة أو مدوناتها وعلاقتها مع الماضي ودورها في بناء الحاضر والمستقبل مع ترصين للهوية ، ( لأن صورة الماضي الحقيقية ، كما يقول والتر بنيامين ، تمر ساعة ، ولا يمكن الإمساك بالماضي إلا كصورة تومض ، من لحظة ثم لا تعود ترى أبداً . وهذا المرور السريع للماضي الحقيقة ، هو الذي يجعل التحقق من الماضي مستحيلاً لأنه ، وببساطة ، مرّ سريعاً ولم يعد موجوداً اليوم / نادر كاظم / استعمالات الذاكرة ص19//
أنا واثق بأن مشروع فلاح رحيم السردي فيه تمثيل وإعادة انتاج الحقائق التي ارتضت بسردياتها زمن النظام السابق ، لأن النظام السياسي السابق مارس ضغطاً على تلك الحقائق ، والذاكرة قادرة على استحضارها وهذه الرواية استحضار جوهري لتلك المرحلة والتي تعرفنا على تفاصيل تجاربنا السياسية والثقافية والاخضاعات من خلال هذه الرواية التي ذهبت باتجاه تمجيد تاريخنا السردي والثقافي . توسع فلاح رحيم كثيراً في سردياته ، لأنه غير خاضع لنظام يرسم له تحديداً إطاريا ، ذهبت بأقصى ما يستطيع للإمساك بالحقائق التي أعطت الجماعات من أجلها الدماء والخوف والرعب والجوع والملاحقة . لذا أقول بأن الماضي البعيد ما زال يومض ويحفز الذاكرة على استدعاء ما هو ضروري وجوهري . الذاكرة هي المانحة لنا تخيلات سردية ، نتباهى بها .
****
كان المطر أحد العناصر الرمزية في الرواية ، منذ لحظة القصة التي اختارت أن تكون استهلالاً فيها ، ولأول مرة في السرديات الطويلة ، تميز الاستهلال لسعته وغادر مساحته المحدودة . ومنه امتد المطر رمزاً ، اختار حضوراً رمزياً متوازناً مع شخصية سليم ، وأضاء هذا الرمز الحياة اليومية المبكرة لسليم في الجامعة واقترن به وصار شفرة دفينة معبرة لشعرية عن ثنائية سليم / هدى ومما زاد من قوة الإحالة الدلالية للمطر هو الثنائية البدئية مع حبات المطر . التي كانت مبتدأ الاستهلال الفريد بنوعه في السرديات . وسيظل متميزاً بخصائصه البنائية .
ومنح الرواية امتداداً وتحولاً واتساعاً مع عمق ملفت للانتباه . كان منذ لحظة الابتداء وحتى نهاية الرواية محكوماً بالطاقة الفنية التي تنطوي عليها الاستهلالات من حضور ، وامتداد واتساع واستدعاء وحدات سردية ذات قوة فنية في تشبيك حيوي . والمثير في هذا الابتداء الاستهلالي الازدواجية الوظيفية فهو قصة قصيرة ، أشار لها القاص وظلت الاستهلال شبكياً لم تختزل ضخامة الرواية وظيفته حتى لحظة نهايتها .
والحضور الجليل للفتاة هدى شكل أحد أهم حضورات الذاكرة السردية ، وهذه تجربة غير مسبوقة . والسبب في مثل هذا الاستهلال هو القدرة الفنية التي تمتعت بها القصة القصيرة وامكاناتها للتحول الى عمل روائي طويل جداً تختزل القيم الدلالية الكامنة في الرمز من تأثير التكرر واستثماره طاقة منتجة للمعنى ، بحيث تحول في سرديات فلاح رحيم الى لعب للمعاني وبخبرة ومهارة . وعلى سبيل المثال نلحظ تكرار ساحة التحرير ونصب الحرية في الرواية وكانت القوة فيهما كشافاً للحظة الاجتما _ سياسية التي انغمر فيها سليم وقادته للعمل في صحافة الحزب الشيوعي . لقد استوعب نصب الحرية ، آفاق هذا الشاب ومهارته في كتابة قصة أثارت الانتباه اليه وأفضت به صحفياً منتمياً للحزب ، يعمل بتفانٍ في الصحافة الخاصة والحاح القاص على ثنائية ساحة التحرير ونصب الحرية متأت من وعي القاص لهما بوصفهما مركزاً ينفتح على معان عديدة مثلما كانا يومئان الى امكانات تحقق الكثير من الأحلام . هذا في المرحلة التي انتظمت بها العلاقة السياسية بين الحزبين المتحالفين ، لكن القاص - المدرك جيداً انجرف بكاء فني ممتاز ، وأعاد صياغة ساحة التحرير والنصب وكانت الإشارة لهما كافية لرسم صورة مكتفية عن السائد السياسي واحتمالات كبيرة تؤشر إنهيار كل شيء ( توقفنا قبل ان نفترق تحت نصب الحرية وانتبهت وانا اتطلع في وجه ابي مازن الى ان اضواء النصب لها شحوب غريب يضفي على الوجوه تحتها سحنة المرض والموت . حين ابتسم أبو مازن وهو يودعني بدا وكأنه يرسل ابتسامته لي من عالم معتم بعيد لا يمت الى الأرض بصلة الرواية / ص234// رصد وصفي دقيق للغاية أدمج الساحة النصب في لقطة واسعة وعريضة ونجحت بتركيز شعري لرسم الحاصل والمتحقق الثقافي والسياسي . ومثل هذا المقطع السردي الحساس كثير في الرواية ، وكشفت عن مهارة متسامية للقاص وقدرة غير طبيعية في ملاحقة شخوصه ، أو الكم الهائل منها وينجح باختزالها بتلميحات سريعة وخاطفة . ومن الحضورات الرمزية الخاطفة ، والتي لن تنساها الذاكرة علاقة سليم مع راهي الهارب من العسكرية وتوطد الصداقة بينهما واضطرار راهي لبيع طيره بسبب حاجته . موضوعة سريعة وخاطفة جداً ، ربما لا ينتبه لها القارئ ، بل هي تتسع وتذكرنا بلعبة المعنى الخاص بساحة التحرير ونصب الحرية . وبيع الطير انغلاق فضاء الحرية الخاص براهي وذهابه نحو السجن ، قبل أن يتأكد ذلك ، وطاوع رمز الطير القاص لاختزال الانغلاق الكلي والعام في البلاد المسرعة الى نحو الاستبداد والقمع .
رمزية المحطة شعرية تفضي بكشوف لعديد من الشخوص منها سليم وراهي وهدى ودلال ونقيب حارث . اتسعت التنوعات الدلالية وامتدت لكل منهما وانفتحت على الآتي من أيامها عبر لغة سردية مرآتية ( صاح القطار صيحة زاعقة علت على أصوات الطبول اضطرّت هدى الى أن ترفع صوتها العذب فتعرض كل عذوبته وهي تركز نظرها في عينيه : هذه زفة صديقتي دلال . تزوجت ابن عمها ص604) الى هنا ولم تنته استهلالية القصة المكتوبة عن هدى التي بثت شفرة واضحة وسريعة له في حدائق المركز الثقافي البريطاني عندما مدت يدها لتصافحه ، أعطته رهانها على العلاقة بينهما . لكنه كشف له انتماءه السياسي واخبرته بانها عرفت عنه الشيء الكثير في الكلية .
****
مكان اللقاء معها في المحطة وعندما أطلق القطار صيحة زاعقة علت على أصوات الطبول ، اضطرت هدى الى أن ترفع صوتها العذب فتعرض كل عذوبته وهي تركز نظرها الساحر في عينيه / 604// تتسع مساحة التشارك بين راهي الحزين وهدى التي أضفت حزناً واضحاً على وجه سليم الذي حدث راهي عنها وهو الذي رأى في عينيه الحمراوين دموعاً غزيرة لم يتوقعها / ص206//وأعلن التشارك بين الاثنين نوعاً من علاقته اختبرتها المحنة .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

تخاطر من ماء وقصَب

يحيى البطاط: الشعر والرسم طريقان لمعرفة العالم، أو لتسكين الذات

موسيقى الاحد: كونشرتو البيانو الثالث لبيتهوفن

مقالات ذات صلة

"جـِيُــــو بُــونْـتــِي"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/03/5862-7.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا >"جـِيُــــو بُــونْـتــِي"

د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي * الى حسين حربة تعيد سيرة "جِيُو بُونْتِي" (1891 – 1979) Gio Ponti المعمار الايطالي المعروف مصائر سير نخبة المبدعين الايطاليين، خصوصاً فيما يتعلق بتنويعات الابتكار وتشعب اهتماماتهم وبراعتهم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram