د. ضياء نافع
يدخل اسم تولستوي ضمن مناهج الفلسفة وتاريخها في روسيا , جنباً لجنب مع بقية الفلاسفة الروس والاجانب الكبار , ويشّكل اسم تولستوي فصلاً مهماً وحيوياً في تاريخ الفلسفة الروسية بالنصف الثاني من القرن التاسع عشر , عندما ابتدأت أزمته الروحية (هكذا استقرت هذه التسمية في المصادر الروسية كافة حول تولستوي ) في سبعينيات ذلك القرن , و أدّت به الى التفرّغ للكتابات والتأملات الفلسفية , التي ضمتّها بعدئذ أربعة مجلدات باكملها في مؤلفاته الكاملة , ومن بينها كتابه الشهير – ( الاعتراف) , الذي كتبه في نهاية السبعينيات وظهر مطبوعاً لاول مرة في جنيف عام 1884 , و طبع الكتاب خارج روسيا كان يعني طبعاً , أن تولستوي لم يكن واثقاً من امكانية طبعه ونشره عندئذ داخل روسيا نفسها نتيجة للأفكار الجديدة والجريئة جداً فيه , رغم أن تولستوي كان اسما كبيراً ومشهوراً ومؤثّراً آنذاك , ( لنتذكر كيف ظهرت بعض مؤلفات أدباء روس في أوروبا قبل ظهورها في روسيا مثل بعض نتاجات غيرتسين و باسترناك و سولجينيتسن وأخماتوفا و غيرهم... ).
يؤكد تولستوي في كتابه هذا , إن الاعتراف ضروري فعلاً , وعلى الانسان الإقرار بالخطايا الشخصية له والاعتراف بها, ولكن أمام نفسه فقط , وليس أمام أي جهة أخرى مهما كانت ( وهو جانب مهم من جوانب أخرى كثيرة أثار الكنيسة الارثذوكسية الروسية في حينها وأصبحت بالتالي ضد الكاتب) . لقد طرح تولستوي في كتابه هذا كل طريق بحثه الروحي والاخلاقي منذ مرحلة شبابه , عندما كان ( عربيداً كما هو معروف ! ) وحتى مرحلة نضوجه الفكري والروحي , وقد حاول تولستوي أن يجد إجابات عن كل ما كان يقلق روحه من اسئلة في العلم والفلسفة بشكل تفصيلي لدرجة , إنه قرر ( عدم الذهاب الى الصيد حاملاً الاسلحة كي لا يغريه هذا الاسلوب البسيط للتخلص من الحياة ) , إذ أن تولستوي كانت تراوده حتى فكرة الانتحار للتخلص من عبثية الحياة في تلك المرحلة من عمره , معتبراً أن الادب الذي يمارسه لا قيمة له.
لقد كتب تولستوي في كتابه هذا كل الافكار التي كانت تدور في عقله ووجدانه , ويمكن تلخيص ذلك كله في كلمات محددة , وهي إن الحياة غير ممكنة دون البحث عن معناها وجوهرها , وإن البحث عن المعنى في الحياة يعني الشك في كل شيء فيها , حتى بالنسبة للإيمان , بل انه طرح فكرة أثارت ردود فعل هائلة عندها , وهي , إن الوصول الى الرب يمر عبر الشك به أولا - ( عبر الشك بالرب نحن نصل الى الرب) , وهذا ما قاده في نهاية المطاف الى الابتعاد عن بعض تعاليم الكنيسة , والانفصام عنها , بل و التمرد عليها وعلى تفسيرها لتعاليم الديانة المسيحية وطقوسها و حتى بعض ثوابتها , ولم تصمت الكنيسة طبعاً على أفكار تولستوي المتمردة هذه, وكان رد فعلها قوياً وعنيفاً , إذ إنها اعلنت رفضها المطلق لأفكار تولستوي الفلسفية هذه جملة وتفصيلاً , وهو ما أدّى في نهاية المطاف ( عندما توفي تولستوي ) حتى الى رفض الكنيسة الارثذوكسية دفنه وفق الطقوس المسيحية كما هو معروف .
لقد انعكست أفكار تولستوي الفلسفية في نتاجات عديدة أخرى له طبعا , بل إن بعض الباحثين وجدوا كثيراً من المقاطع الفلسفية في رواياته وقصصه ورسائله , ونود أن نختتم هذه الملاحظات حول تولستوي فيلسوفاً بمقطع من مذكراته , والتي كتبها في مقتبل عمره ( كان عمره آنذاك 27 سنة ليس إلا ) , وهي تبين بلا شك سعة خياله و حجم أفكاره وانطلاقتها المتناهية , والمقطع هو كما يأتي – ( ... الحديث عن القدسية والإيمان أدّى بي الى فكرة عظيمة وكبيرة , وأنا أشعر بأني قادر على تحقيقها وأن أكرّس حياتي لها , والفكرة هذه – هي تأسيس دين جديد , ينسجم مع تطور الإنسانية , ومع دين المسيح , لكنه منقّى ...., دين تطبيقي , لا يمنح الوعود بالنعيم في المستقبل, وإنما يخلق النعيم على الأرض ...) .
لقد عاش تولستوي 82 سنة بأكملها , واستطاع أن يؤسس مفهوم التولستوية العالمي ( انظر مقالتنا بعنوان – تولستوي والتولستوية , ومقالتنا بعنوان – غاندي وتولستوي ) , وترك لنا إرثاً فكرياً ضخماً من النتاجات الابداعية الحيوية , والتي مازالت تتعايش وتتفاعل مع الناس في روسيا وخارجها , ومازالت تحتاج الى تأملاتنا و دراساتنا وبحوثنا لسبر أغوارها والغوص في أعماقها واستنباط الدروس والعبر منها , وملاحظاتنا الوجيزة هذه عن جوانبها الفلسفية خير دليل على ذلك.