عموماً يخلو الأدب العربي من أدب الاعترافات، فكيف إذا تعلق الأمر بكتابة كتاب عن تجربة شخصية بالسجن؟ حتى الآن ظل الحديث عن تجربة السجن، موضوعاً له علاقة بالتخيل، عبرت عنه روايات قليلة، دون الدخول بتفاصيله الجزئية، بل غالباً دون أن تمنح السجن المعني هوية أو اسماً، أما يحمل السجن فيها اسماً مخترعاً، "شرق المتوسط" مثلاً، أو واقعياً، لكنه ما عاد موجوداً، تهدم. عدم الحديث عن السجن "المعاصر"، جعل الروايات تلك تبدو روايات عديمة الرائحة واللون والطعم، خاصة وأن بعض كتابها، بدوا غير مقنعين، عندما كتبوا بحرية وبلسان "سليط" عن سجن "مجهول"، في الوقت الذي سمحوا فيه لأنفسهم بالتمتع بعطايا تلك الأنظمة التي كان بالنسبة لها السجن أمر روتيني، الكاتب السعودي الأردني الجنسية، عبدالرحمن منيف مثلاً، الذي كتب أول رواية عربية عن السجن "شرق المتوسط"، عاش على بركات نظامين ديكتاتوريين، لم يتوقف عن مدحهما أو الصمت على جرائهما ضد معارضيهم وما كان يدور في سجونهما حتى وفاته قبل خمسة عشر عاماً تقريباً: سوريا والعراق! ربما ذلك ما جعل القارئ يضع مسافة بينه وبين بطل الرواية، بالضبط نفس تلك المسافة التي فصلت بين الكاتب وبطله. طبعاً القضية لها علاقة بالحديث عن إحدى التابوهات الثلاثة: العسكرتاريا والدين والجنس، التي يقود كسرها إلى عواقب تختلف من بلد إلى أخرى، لكنها سيئة في كل الأحوال، الكتابة عن تجربة السجن صراحة، تدخل في باب المساس بسياسة الدولة، الحديث عنها، يحتاج إلى شجاعة نادرة، ستقود صاحبها للسجن لامحالة. جميع الذين دخلوا السجن في الأنظمة الديكتاتورية يعرفون ذلك، فما أن يُفرج عن السجين، حتى يُقال له وقبل أن يغادر بوابة السجن، عليه أن يصمت تماماً، ألا يتحدث بكلمة واحدة عن سجنه، في شريط فيديو مسجل له، خاطب صدام حسين رفاق له "ستبتّ القيادة بمصيركم"، قائلاً: "والله، إذا سمعت تحدث أحدكم مع مواطن عراقي أو بعثي، همساً، أطره بيدي أربع طرات"، (حتى الهمس يُعاقب عليه في زمن صدام!) ربما هو حرص السجانين وأصحاب السلطة، ألا يعرف المواطنون، أن هناك سجناً آخر ينتظرهم، أكبر من بحبوحة حياتهم التقليدية التي تقترب من السجن أصلاً!
والعجيب أن أكثر ما كان يُغضب هذه السلطات، عندما تعرف أن السجين هذا يختلف عن بقية السجناء، أنه كاتب، شاعر، لا تريد تصديق ذلك، وذلك ما يجعلها، في حالته، تدور به من سجن وحشي إلى آخر لا يقل عنه وحشية، يُجرب عليه جلادوها كل ما لديهم من أجهزة تعذيب، لكي تقنعه، أن الشعر خراء، وأن الإحساس بالتمايز، والبحث عن الذات والقبض عليها مسألة غير موجودة، وأن الحقيقة الوحيدة القائمة - حسب هذه السلطة- هي سلطة "السيد الرئيس الذي ليس له مثيلاً في العالم" وحدها، وهي هذه السلطة التي تقرر هويته وتمنحه محتوى. من يجرؤ على تقديم نفسه بصفته شاعر أو كاتب، سيحصل من الجلاد، فقط على سياط إضافية، تعذيب مضاف، المهم أن ينسى السجين ما يكونه، أن ينسى السبب الذي دخل من أجله، ولأن الأمر يتعلق بسجناء رأي، بعضهم، كتّاب، شعراء، فأن السلطة هذه تفعل كل ما في وسعها لكي تجعلهم يعتادون على ألقاب يمنحها الجلادون لهم، في النهاية - حسب فلسفة الديكتاتور - الأمر له علاقة بمدة السجن، وسيعرف كل واحد من هؤلاء السجناء: أنه ليس الشاعر فلان بن فلان، وليس المفكر فلان بن علان، وليس الكاتب المعروف كذا، بل أن يعرفوا أنهم شخصيات لا علاقة لهويتهم بما يحملونه من مضمون، لا علاقة لهويتهم بما يفكرون به، أن يعرفوا، أن هوية كل واحد منهم يحددها أمر خارجي فقط يمنحه السجان له، أنه: البيجامة الكحيلة، القميص البيج، الكنزة الرمادية، أشقر الخرا، أسود الكلب، رأس الجحش، أبو رقبة..ألخ، لكن المفارقة، أن السجّان وهو يفعل ذلك، لا يدري، انه هو الآخر يتحول في عين سجينه إلى لقب وشكل ولباس: السجناء يمنحون السجين أيضاً ألقاباً، لكن الفارق، أنها ألقاب غير حيادية، لها علاقة بقدرتهم على التعذيب وحسب.
منطقة محررة: عن أدب السجون
[post-views]
نشر في: 13 مارس, 2018: 06:24 م