لطفية الدليمي
مات إذن ستيفن هوكنغ. مات بعمر ( 76 ) عاماً وهو ذات العمر الذي عاشه (ألبرت آينشتاين)، والغريب أن يكون يوم وفاة ( هوكنغ ) هو ذاته يوم ولادة (آينشتاين): 14 آذار. ربما تلك فنتازيا أخرى من فنتازيات تصاريف القدر الذي أراد وضع توقيعه على حيوات هؤلاء العظام الذين تاقوا لبلوغ نظرية كل شيء في الكون.
نشأت معرفتي الأولى بالفيزيائي الأشهر في عالمنا المعاصر (ستيفن هوكنغ) عندما سمعت بعبارة (نظرية كل شيء Theory of Everything) - تلك العبارة المدهشة التي تستبطن سحراً بقدر ماتبعث على الدهشة، وعرفت بعد شيء من بحث وتنقيب أن هذه النظرية هي بمثابة " حجر الفلاسفة " لدى الفيزيائيين المعاصرين ؛ فهي تمثل تتويجاً لرؤيتهم الملحمية وجهدهم الأسطوري في محاولة بلوغ نظرية توحّد كل القوى الأساسية المعروفة في الطبيعة (وهي أربع قوى بحسب المتعارف عليه في أوساط الفيزيائيين)، وعند متابعتي للجهود العلمية المبذولة لتحقيق مسعى توحيد القوى عرفت أن (ستيفن هوكنغ) هو واحد من الفيزيائيين الأساسيين المساهمين في جهد بلوغ (نظرية كل شيء).
ظهر كتاب هوكنغ المعنون (موجز تأريخ الزمان: من الإنفجار العظيم إلى الثقوب السوداء) مترجماً عن دار المأمون العراقية في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، وكان هذا الكتاب باكورة أعمال هوكنغ في ميدان الكتابة العلمية التي تخاطب أوسع حلقات العامة من الناس بقصد إشاعة الروح العلمية وتقريبها إليهم وبث روح الحماسة والشغف بها، ومن جانبي فقد قرأت الكتاب بكل شغف فور صدور ترجمته وأعدت قراءته مرّات عدة لاحقاً.
لن أتحدث الكثير عن هوكنغ ؛ فهو عالم طبقت شهرته الآفاق وبات معروفاً في كل بقاع العالم بسبب إنجازاته الثورية وآرائه المثيرة (مثل رأيه بشأن موت الفلسفة، أو بشأن الروبوتات وطبيعة الذكاء الإصطناعي، أو بشأن ضرورة إستيطان الإنسان لكواكب أخرى غير الأرض)، كما أن صورته المرتسمة في الذهن بكونه عالماً فيزيائياً نظرياً فذاً يصنع أعظم النظريات وينجز أدق الحسابات وهو مقيّدٌ إلى كرسيه المتحرك قد ساهمت هي الأخرى في ذيوع صيته ؛ لذا لن أخوض في تفاصيل نشأته ومؤلفاته ؛ فقد حكى عنها بهدوء في ثنايا سيرته الموجزة المعنونة (موجز تأريخ حياتي My Brief History) - تلك السيرة الذاتية التي أرادها أن تكون موجز تأريخ حياته بمثل ماأراد لكتاب (موجز تأريخ الزمان) أن يكون موجزاً لتأريخ الكون، وقد أكملت ترجمة هذه السيرة وهي تنتظر النشر بعد تجاوز بعض العقبات الإجرائية الخاصة بتفاصيل النشر.
أقدّم في هذا اليوم الحزين الذي غادرنا فيه هوكنغ ترجمة للفصل الأخير القصير المعنون (ليس ثمة حدود) من كتابه سيرته الذاتية الذي أشرت إليه أعلاه، وهي تلويحة محبة وإجلال لهذا العالم الباسل الذي منح العبقرية نكهة مميزة على مدى خمسة عقود من عمله الفيزيائي الدؤوب بمثابرة لم تخفت عزيمتها رغم كلّ المعوّقات.
ليس ثمة حدود
عندما كنتُ في الحادية والعشرين وأصابني داء التصلب الجانبي الضموري إنتابني شعور مرّ بأن هذا الأمر لم يكن عادلاً البتة معي. لِمَ ينبغي أن يحصل معي هذا الأمر ؟ وسرعان ماشعرت أن حياتي موشكة على نهاية محتومة وليس ثمة مايمكن عمله للحفاظ على قدراتي التي لطالما تملّكت كياني من قبلُ ؛ غير أنني اليوم وبعد مايقارب الخمسين سنة من ذلك التأريخ أشعر بأنني بالهدوء والتناغم مع حياتي: تزوّجت مرتين وصار لي من زيجاتي ثلاثة أطفال على قدر عالٍ من الجمال والنجاح وأنجزوا إنجازات معتبرة في ميادينهم، وبقدر مايخصني الأمر فقد أنجزت أنا الآخر إنجازات جيدة في مهنتي الأكاديمية، وأظن أن معظم الفيزيائيين النظريين يتفقون بأن تنبؤاتي النظرية بشأن وجود الإنبعاث الكمي من الثقوب السوداء هو أمر صحيح للغاية رغم أنه لم يأتِ لي بجائزة نوبل في الفيزياء بسبب كون مسألة التحقق التجريبي من هذا الإشعاع أمراً في غاية التعقيد والصعوبة، ولكن برغم ذلك فقد حصلت على معظم الجوائز المرموقة في الفيزياء الأساسية تقديراً للقيمة النظرية العليا لإكتشافي على الرغم من صعوبة التحقق منه تجريبياً.
لم تكن إعاقتي الجسدية لتشكل معضلة خطيرة تقف بوجه عملي العلمي ؛ بل على العكس أظن أنها كانت - من جوانب محددة - عنصراً داعماً مضافاً في خزانة مدخراتي الإيجابية الثمينة ؛ إذ لم يتوجب عليّ الإنخراط في محاضرات طويلة وإلقاء الدروس على طلاب الدراسات الأولية، كما لم يكن مطلوباً مني حضور الإجتماعات الطويلة المملة التي تستهلك الوقت من غير فائدة جدية كما أحسب، وهكذا وجدتني أكرّس نفسي وعقلي كلياً للبحث فحسب ولاشيء سواه.
بالنسبة الى زملائي فلستُ بأكثر من فيزيائي آخر من الفيزيائيين الذين عرفوهم، أما بالنسبة للجمهور الأوسع من العامة فربما أكون غدوت العالِم الأكثر شهرة في العالم بأسره، وربما تأتى هذا الأمر بسبب أن العلماء في نظر العامة - بإستثناء آينشتاين - ليسوا نظراء لنجوم موسيقى الروك من جهة، ولأنني صرت النموذج الصالح لصورة المثال النمطي الذي يمكن أن يكون عليه عبقري معاق. لستُ قادراً بالطبع على التخفي في صورة رجل يضع شعراً مستعاراً ونظارة سوداء على وجهه ؛ بل صار الكرسي المتحرك هو العلامة الأيقونية الملازمة لي دوماً.
إن كون المرء ذو شهرة ذائعة في العالم كله ويسهل التعرّف عليه أينما كان أمر له إيجابياته وسلبياته: تنحصر السلبيات في كون المرء لايستطيع فعل أمر ما من الأمور اليومية الشائعة ( مثل التسوق ) من غير أن تحاصره الحشود التي تطلب إليه إلتقاط صورة معه، وكذلك يمكن الإشارة إلى التدخّل الإستقصائي غير الطيب للصحافة التي حشرت نفسها في تفاصيل حياتي الخاصة بطريقة فجة، ولكني أرى أن الإيجابيات تفوق كثيراً السلبيات المتوقعة ؛ إذ يبدو الناس سعيدين للغاية بلقائي ولن أنسى بخاصة الحضور العظيم غير المتوقع للحشود التي جاءت لرؤيتي عندما شاركت في بعض الفعاليات غير الرياضية في الألعاب البارالمبية ( ألألعاب الأولمبية للمُعاقين ) في لندن عام 2012.
عشتً حياة كاملة تبعث على الرضا والإشباع، وأرى أن الُمعاقين ينبغي عليهم دوماً أن يركزوا جهودهم في محاولة فعل الأشياء التي لاتمنعهم إعاقتهم من فعلها، وان يتجنبوا الندم على تلك الأشياء التي ليس بمستطاعهم فعلها. بالنسبة لي قد فعلت معظم الأمور التي أحب: سافرت في العديد من الجولات، وزرت - على سبيل المثال - الإتحاد السوفييتي سبع مرات. كانت المرة الأولى التي زرت فيها الإتحاد السوفييتي برفقة جماعة طلابية أراد أحد أعضائها (وكان مسيحياً معمدانياً Baptist) أن يوزّع الكتاب المقدس المكتوب بالروسية وأرادني أن أساعده في تهريب تلك الكتب إلى الإتحاد السوفييتي، وقد أصاب خطة التهريب بعض النجاح ولكن السلطات إكتشفت فعلتنا ونحن على وشك مغادرة المطار فوُضِعنا رهن الإعتقال بعض الوقت ؛ غير أن توجيه التهمة لنا بتهريب كتب مقدسة كان سيُعدُّ حادثة دولية قد تقود لتداعيات مؤذية على مستوى الرأي العام لذا أطلِق سراحنا بعد بضع ساعات من إعتقالنا. أما بالنسبة لزياراتي الست الأخرى إلى روسيا فكانت لأجل رؤية العلماء الروس الذين لم يكن يُسمَح لهم بالسفر إلى الغرب، وبعد تفكك الإتحاد السوفييتي عام 1990 غادر الكثير من ألمع العلماء الروس إلى الغرب ؛ لذا لم يعد ثمة حاجة لي لزيارة روسيا منذ ذلك التأريخ.
زرت اليابان أيضاً ست مرات، والصين ثلاث مرات، وكل قارة (بما فيها القارة القطبية الجنوبية-أنتاراكتيكا -) باستثناء القارة الأسترالية، وقد قابلت رؤساء كل من: كوريا الجنوبية، الصين، الهند، إيرلندا، تشيلي، الولايات المتحدة، وألقيت محاضرات في قاعة الشعب العظمى في بكين وفي قاعة البيت الأبيض كذلك، كما وجدت نفسي يوماً ما وأنا داخل غواصة تمخر عباب البحر السحيقة، أو في بالون مندفع بتأثير الهواء الحار إلى أعالي الجو، أو في حجرة عديمة الجاذبية، وقد تمّ حجز مقعد لي للسفر إلى الفضاء ضمن رحلات Virgin Galactic المرتقبة.
أبان عملي المبكر أن تنبؤات النسبية العامة الكلاسيكية تنهار عند الإنفراديات الخاصة بالإنفجار العظيم أو بالثقوب السوداء، أما عملي الأحدث فقد كشف عمّا يمكن أن تتنبأ به النظرية الكمية بشأن بداية الزمان ونهايته، وإنه لأمر مجيد حقاً أن أبقى حياً وأواظب على البحث في ميدان الفيزياء النظرية كل هذا الوقت، وسيكون مبعث سعادة لانظير لها في أعماقي إذا ماعلمت أن عملي هذا ساهم في إضافة أي قدر ( مهما كان ضئيلاً ) في فهمنا للكون.