تساءلت بعد قراءتي لكتاب الروائية الفيلسوفة ريبيكا غولدشتاين (أفلاطون في عصر غوغل : لِمَ لا تموت الفلسفة؟) المنشور عام 2014 : ترى ماالذي يدفع بعض أكبر العلماء في عصرنا - من أمثال ستيفن هوكنغ - إلى الإدّعاء بأنّ عصرنا هذا هو عصر موت الفلسفة ؟ وهل يتناقض العلم مع الفلسفة تناقضاً جوهرياً يقتضي أن يفني أحدهما الآخر ؟
ينطوي إدّعاء القائلين بوجود صراع جوهري ( إذا استخدمنا مفردات مؤرّخ العلم وفيلسوفه توماس كون ) بين العلم والفلسفة على خطل كبير ورؤية مفاهيمية قاصرة ، ويمكن تفنيد جوانب ذلك الخطل في أطروحات محددة .
تتمحور أولى الأطروحات حول جانب مفاهيمي يخص موضوعة التطوّر الذي رافق المسيرة العلمية وبخاصة في العلم الفيزيائي ، ويرى مناصرو هذه الرؤية أنّ الفلسفة عاجزة عن التطوّر وغير قادرة على الإيفاء بمستلزماته ؛ يبدو الأمر مخادعاً إلى حدّ كبير : هل يتجرّأ أعظم موسيقي في عصرنا الحاضر أن يقول بأنّ الموسيقى لم تتطوّر خلال قرنين من الزمان ؟ الحقّ أن الفلسفة تطوّرت كثيراً خلال القرون العديدة ؛ غير أن تطورها يخالف شكل التطوّر العلمي لإختلاف الطريقة والموضوعات ، وهناك كثيراً من التطوّرات العلمية هي بذاتها دافعة لتحفيز الكثير من دوافع التطوّر في الفلسفة وبخاصة في حقل علم النفس الإدراكي والحوسبة العصبية والتطوّرات الحديثة في نظرية الكمّ ،،، الخ ، وهذه كلّها اشكال من التطوّرقلّما ينتبه لها المرء لأنّها لاتمتلك تمظهرات مادية في الواقع الذي نعيشه بعكس التطوّرات العلمية التي يتعامل معها الناس بمفردات مادية محددة لاتلبث أن تتبدّل كلّ حين ؛ لكنّ غياب التمظهرات المادية لايعني غياب ممكنات التطوّر ، ومن يقرأ للفلاسفة المعاصرين المختصين بنظرية المعرفة وعلم النفس الإدراكي ( مثل دانييل دينيت و ستيفن بنكر ) سيعرف تماماً المديات الواسعة التي بلغتها الآفاق الفلسفية المعاصرة .
هناك من يتناول هذه الموضوعة من زاوية براغماتية خالصة ؛ فهو يرى انّ كلّ مالايساهم في خلق الثروة وتنميتها ينبغي طرحه جانباً واعتباره إشتغالاً غير منتج ، ولابد أن نسائل هؤلاء : هل ترتقي الحياة البشرية بدفع عوامل مادية مجردة ؟ ماذا سنقول عن الموسيقى والرواية والفنون السينمائية والبصرية ،،، الخ حينئذ ؟
قد يرى مناصرو النظرة العلمية الراديكالية الخالصة أنّ التطوّرات القادمة في الذكاء الإصطناعي ستعيد تشكيل نظرتنا تجاه العديد من الحقول المعرفية ؛ وواضح أنّ التغيّرات الحتمية التي ستطال تفاصيل الحياة المستقبلية إنما هي تفاصيل إجرائية ضرورية للتعامل مع التفجّر الكبير الحاصل في طرق إنتاج المعرفة والتعامل مع تأثيراتها المتوقعة ؛ غير أن الأمر يختلف مع طبيعة التعامل البشري مع العناصر الوجدانية التي تشكّل جانبا جوهرياً كبيراً من معنى حياة الكائن البشري .
في النصف الأول من القرن العشرين سعى بعض الفلاسفة لجعل الفلسفة علمية من خلال خلقهم لما سّمّي حينها ( الفلسفة التحليلية ) أو ( الوضعية المنطقية ) التي تقتصر على التحليل المنطقي للغة المتداولة ، وعدّ هؤلاء الفلاسفة كلّ مسعى فلسفي آخر زيفاً خالصاً لايُعتدّ به ؛ لكنّ مبيعات الكتب الفلسفية أثبتت على مر السنوات أنّ (محاورات أفلاطون) ظلّت الكتاب الفلسفي الأكثر مبيعاً حتى يومنا هذا بسبب مقاربته للعقل والقلب والروح في توليفة فريدة من نوعها تستعصي على الإندثار .
الفلسفة حيّة لن تموت ، وسيبقى أفلاطون مُعاصِرنا الذي لاينضب خزينه من الأفكار والمُتعة معاً .
أفلاطون مُعاصِرُنا
[post-views]
نشر في: 17 مارس, 2018: 08:00 م