سعد محمد رحيم
حين انتظمت اللغة، مفرداتٍ وقواعد، افتتحت أول الطريق إلى الحضارة.. كان الإنسان بحاجة إلى أن يحكي عن مغامرته في العالم، وأن يعبِّر عن قلق الوجود، فكانت حاجته إلى الحكاية وسردها أصيلة في ذاته لأنه كائن اجتماعي بالفطرة وبالضرورة.. ومن حسٍّ فطري آخر تولدت حاجته إلى التناغم، وهنا جوهر فكرته عن الجمال.. وكانت اللغة أداته الجديدة المعقدة للتعبير عن نفسه وتجربته بإيقاع يحاكي إيقاع حركته، وعلاقاته مع الآخرين والطبيعة، فكان الشعر المترع بالسرد، والسرد المخضل بالشعر نتاج تلك الحركة/ المغامرة.. هنا نشأ الأدب من الاقتران الخفي الحتمي بين الحاجتين، وبين الوسيلتين، ولذا لم يستقل الشعر قط عن السرد، والعكس صحيح. أما التطور اللاحق الذي حصل في الأشكال الأدبية عبر الأزمنة المتعاقبة، مع تطور الوعي الإنساني والارتقاء الحضاري فلم يستطع فصم تلك العلاقة ولن يستطيع.. فليس هناك من سرد نثري محض ينبذ الصور والإيقاع وهما دعامة الشعر، ولا شعر محض لا يحتاج إلى شيء من تفاصيل تجربة الكائن في العالم وهي دعامة السرد. وأول الملاحم والأساطير الكبرى كُتبت شعراً، غير أنها كانت سرداً خيالياً أمتع من التاريخ والواقع، مشبعاً بالدلالات والرموز، وبمسحة جمالية ما تزال تُدهشنا..
ابتكر النقد الأدبي منذ أرسطو اصطلاح (الشعرية POETICS) الذي انتعش مع النقد الحديث، وهو اختيار ذكي إذ أرجع الأدب كله إلى جذره الشعري، معنياً بالبنى التي تجعل من نصٍ ما أدباً..
نستقرئ شعرية النص السردي (رواية كان أو قصة قصيرة أو سيرة) من كليّة نسيجه اللغوي، وأنساقه، والعالم الممثَّل فيه.. أي أن القوانين والمعايير والأسس والقيم التي تؤكد أدبية النص ذاك نؤشرها في إطار كليّاني. صحيح أن هناك شرارات شعرية وامضة يمكن تلمّسها في جسد الجملة السردية، سواء كانت طويلة كما عند غابريل غارسيا ماركيز أو قصيرة كما عند إرنست همنغواي. أو قد نتحسّسها في المشاهد والفصول التي منها يتكون المبنى والمتن الحكائيين، معاً أو كلاً على حدة، والأمثلة بهذا الصدد لا تحصى.. غير أن كليّة النص هي التي تقرر معالم شعريته في النهاية.
والشعرية غير الشعر على الرغم من تواشج جذورهما المعجمية. فنحن في الشعرية لا نبحث عن البلاغة والصور والمفردات الغريبة والمموسقة منفردةً، وإنما في ما يتحكم بالبناء الأدبي ويرسِّخه ويعززه، ويُظهره بجلاء في أثناء القراءة العميقة.
نعرف أن الحدود بين الأجناس الأدبية ليست قارّة وصلدة، لا سيما في الأدب الحديث. والنصوص الأدبية التي تستحق هذه التسمية تنتمي، كما نوّهنا، إلى ما اصطلح عليه بـ (الشعرية)، وعلى وفق مجموعة القيم والمعايير التي تجعل من تلك النصوص أدباً سواء كانت قصائد أو قصصاً أو روايات أو مقالات أدبية.. والتراسل بين هذه الأنواع بات حقيقة في عصرنا، على الرغم من أن الشعر والنثر كانا يتداخلان مذ وجدا مع فجر الحضارات. وإذْ بزغت حاجة الإنسان إلى أن يحكي قصته/ مغامرته في العالم توسّل بالشعر أولاً، ربما للفت الانتباه أكثر. وكانت القصائد الأولى التي كُتبت حينذاك ذات مضامين سردية في الغالب. وقد دوِّنت الملاحم والأساطير ورويت شعراً (جلجامش، الإلياذة، الإنياذة، الخ..). لذا حين نقول اليوم (قصة) أو (رواية) أو (سيرة ذاتية) فإننا لا نتحدث عن قطع نثرية جافة، وإنما عن نصوص مشبعة بالشعر، بهذه الدرجة أو تلك.
(الله، إنها قصيدة) هكذا نطلق صرخة إعجاب حين فراغنا من قراءة قصة أو رواية تثير فينا حسّ الجمال. وهذا لا يعني قطعاً تفضيلاً للشعر على السرد. وإنما نحن نجلي بهذه العبارة ما تكتنزه مفردة الشعر من دلالات السمو والسحر والإبهار..