د.أحمد شرجي
إذا كانت العلامة عند دوسوسير توحّد بين المفهوم والصورة السمعية، أي بين الدال والمدلول من خلال علاقة الأثر بالمؤثر، فإن العلامة عند بورس، هي السيميوزس Semiosis، وهي علامة حقيقية بالمعنى الفعال للعلامة، وعرفه بأنه مفهوم " يشير من جهة إلى القدرة على إنتاج دلالة ما استناداً إلى روابط صريحة هي ما يشكل جوهر العلامة وشرط وجودها، ويشير من جهة ثانية، إلى سيرورة التأويل التي تعد أوالية ضمنية داخل أي سيرورة لإنتاج الدلالة". ويعتبر السميوزس، واحداً من أهم الطروحات النظرية للعلامات، ويفترض شراكة اشتغالية بين ثلاثة عناصر، وهي (العلامة الممثل، العلامة الموضوع، والعلامة المؤول)، فالسميوزس حركة أو سيرورة اشتغالية. لكن لا تعمل هذه العناصر وفق نظام المقولات الزوجية أو الثانوية، بل دائما تكون ثلاثية، لأن "العلامة بحد ذاتها هي مقال على الأولية Firstness والموضع مثال على الثانوية secondenssمن حيث أن المفسّر (المستدَّل) العنصر الوسيط هو مثال على المرتبة الثالثة Thidbess". وعليه، فإن العلامة ليست كياناً مستقلاً معزولاً، بل تتشكل دائماً ضمن هذه العلاقة الثلاثية، وهي علاقة ترابطية وتركيبة.
يستند مشروع بورس اللغوي إلى أرضية فلسفية واسعة، تمتد جذورها إلى المنطق والظاهراتية والأنثروبولوجيا السلوكية والرياضيات. وهو ما ساهم في إضفاء سمات وخصائص عديدة على دراسة علم العلامات، فقد نظر بورس إلى الأشياء ضمن زاوية سيميائية، يقول: "لم يكن بوسعي أن أدرس أي شيء: الرياضيات، الأخلاق، الميتافيزيقا، التيروديناميك، البصريات، التشريع المقارن، الفلك، السيكولوجيا، علم الأصوات، علم الاقتصاد، تاريخ العلوم، الرجال والنساء، الخمر... إلا دراسية سيميائية"( العماري، محمد التهامي، حقول سيميائية، ص:6-8.). ويتضح من هنا، أنه يقارب المجالات المعرفة وأدوات التواصل الإنساني بوصفهما أنساقا علاماتية، تعمل بحركية دائمية، وفق آلية سيميائية. فالعلامة كما عرفها بورس، هي "شيء ما ينوب لشخص ما عن شيء ما، من وجهة ما وبصفة ما. فهي توجد لشخص ما، بمعنى أنها تخلق في عقل ذلك الشخص علامة معادلة، أو ربما علامة أكثر تصوراً، وهذه العلامة التي تخلقها اسميها مفسرة (مؤول Interpretant) للعلامة الأولى"
يستخدم بورس كلمة علامة للتعبير عن موضوعة مدركة ومتخيلة، وإذا أخذنا كلمة Fast على سبيل المثال، كونها علامة غير متخيلة، لا نستطيع أن نكتب أو نتلفظ الكلمة ذاتها إلا من خلال وجه واحد من وجوهها. لان كلمة Fast مكتوبة أو ملفوظة هي ذاتها بتعدد معانيها سواء كانت تعني (السرعة) أو بمعناها الآخر (ثابت) وبمعناها الثالث(صام)، وعليه فأن الشيء لا يمكن أن يكون علامة إلا عند قيامه بـ(تصوير) شيء آخر يسمى موضوعه.
بمعنى أخر فأن الشيء لا يمكن أن يكون علامة إلا من خلال وجود العقلية التأويلية التي تحيله إلى شيء، وهذه العقلية تمنحه شرعيته الاجتماعية والثقافية بوصفه علامة لموضعه. ونفس ذلك سيولد لنا علامات بدون جذور، لأنها تفتقد لعلاقتها الترابطية مع الأشياء التي تحملها، وكأنها في حالة طيران أعمى، لأنها بدون خرائط تستدل بها إلى الشيء الذي تحمله. إن العلامة "تفترض معرفة مسبقة بالموضوعة كما تقوم بتوصيل معلومات إضافية بصددها"( نفسه، ص:140). لأنها "تنوب عن شيء ما، وهذا الشيء هو موضوعها (Opject)، وهي تنوب عن تلك الموضوعة من كل الجهات، بل تنوب عنها بالرجوع إلى نوع من الفكرة التي أسميها سابقاً (ركيزة Ground) المصورة".
وقبل التعرف على المؤول والموضوع والمصورة، وجب الوقوف عند مراحل المشروع الفكري لبورس، للتعرف بصورة أكثر وضوحاً على مشروعه السيميوطيقي،. تنقسم كتابات بورس حول العلامة إلى ثلاثة أقسام أو مراحل:
• المرحلة الكانطية 18511870: وفيها ارتبطت نظرية العلامات بمراجعة المقولات الكانطية ضمن المنطق الأرسطي الثنائي.
• المرحلة المنطقية 18701887: واتسمت باقتراح بورس منطقاً جديداً كتعويض للمنطق الأرسطي، وهو منطق العلامات، والذي سيكون الأرضية التي يستند عليها لاحقاً التطور الثلاثي عن المقولات والعلامات.
• المرحلة السيميوطيقية 18871914: والتي شهدت تطور نظريته الجديدة للعلامات، وارتباطها بما اقترحه للمقولات.
نستنتج مما سبق، أن نظرية العلامات عند بورس لا يمكن فصلها عن اهتماماته الفلسفية. وإذا أردنا تطبيقها باعتبارها نظاماً قائماً بذاته دون مرجعيتها الفلسفية، فمن المؤكد أننا سنسيئ إليها وسيكون فهمنا لها قاصراً، لأن نظرية العلامات عند بورس تستند إلى أرضية فلسفية، وهي فلسفة استمرارية وواقعية وذرائعية: استمرارية لأنها لا تتطابق بالقصدية ذاتها مع الواحدية ومع الثانوية. وواقعية لكونها تؤمن بأن الحقيقة تنتمي إلى الحاضر المعرفي مهما كانت الحقيقة، ولا تكون الأسباب الخارجية عن إدراكنا الحسي، هي الحقيقة الواحدة الثابتة. وذرائعية لأن الذرائعية منحت فلسفته سمة الاستمرارية والواقعية، فذرائعيته لم تسبغ باللون الأميركي النفعي.
ولعل من أهم المبادئ التي طرحتها سيميوطيقا بورس، هي أنه ليس هناك وجود للفكرة، من دون وجود العلامات، فبدون مساعدة العلامات سيتعذر علينا فهم فكرتين بشكل واضح وسلس. إن العلامات تؤسس منطلق فهم الفكرة. ويؤكد مبدأ الذرائعية، أنه لا خصوصيات للعلامة لأنها لا تتطابق مع علامة اخرى. وهذه الميزة مرجعيتها لغوية، وكان أول من طرحها هو دوسوسير من خلال فكرة الاختلافات في اللغة.
المقولات الأولية والثانوية والثالثية.
الأولية: مقولة تتحقق من كل ما هو من شأنه أن يوجد في راهنية وجوده، من دون إحالته على موجود ثانٍ.
الثانوية: مقولة تحقق كل ما هو موجود، مهما كانت ماهيته ومن دون إحالته إلى موجود ثالث.
الثالثية: مقولة الفكرة التي توجد عند كل ما هو موجود.
عندما نضع تلك المقولات وفق مقاربة من الناحية السيكولوجية، تصبح الأولى مقولة ما قبل الأساس واليومي، وغير المحسوس. أما الثانوية، فهي مقولة الفعل Action في حالته الخام غير مفكر به. أما الثالثية فهي خطية، أي مقولة الوعي المفكر به( نفسه ،ص:79 وما بعدها). أن كل مقولة تولد ثلاثية جديدة، بحيث تستمر في عمليتها التوليدية من خلال "سيرورة العلامة اللامتناهية" كما يسيمها بورس، ما دامت العلامة، هي "كل ما يحدد شيئاً آخر (مؤوله) بإرجاعه إلى شيء بدوره هو الآخر يرجعه (موضوعه) بنفس الطريقة. فالمؤول يصير بدوره علامة وهكذا دواليك إلى ما نهاية "( نفسه ، ص:96). وبما أن بورس اعتبر العلامة بناء ثلاثياً يشكل كل مكون منه علامة مستقلة، فإنها تشكل بدورها ثلاثية جديدة. ويجد جيراردو لودال هذا التحديد نفياً للعلامة، لأنه يقوض تواصلها. وقد يصعب قبول فكرة التقويض الذي طرحها لودال، لأن بورس لا يفصل بين النظرية، كما الفرق يعيق امتداها الطبيعي، لأنها تولد وتنمو وتموت في الأشياء.