ثائر صالح

كان دور المرأة ثانوياً في العصور السالفة على العموم. ومع ذلك يعج التاريخ بقصص النساء الشهيرات – ملكات أو شاعرات الخ. لم يكن الحال مختلفاً في بيزنطة، فنذكر اسم هيلينا أم الامبراطور قسطنطين الذي اعترف بالمسيحية دين الدولة البيزنطية الرسمي، وهو الذي بنى القسطنطينية، أو ثيودورا زوجة الامبراطور يوستينيان. لكن الى جانب الامبراطورات وامهات الأباطرة، لا نعرف سوى عن امرأتين حفظ التاريخ اسميهما الصريحين، أحداهما راهبة ومؤلفة موسيقية لا تزال اعمالها تسمع الى اليوم، هي القديسة كاسّياني (أو كاسّيا). ولدت كاسياني بين سنة 905 – 910 في القسطنطينية في عائلة ثرية، بذلك قد تكون تلقت تعليماً جيداً. يقال أن الامبراطور ثيوفيلوس أراد الزواج وكانت كاسياني بين المرشحات، ألا أنه عدل عن الزواج بها بعد حوار قصير جرى بينهما. فقد ذكرها بتفوق الرجل على المرأة في اشارته الى حواء وتناولها الطعام المحظور، فذكّرته كاسياني بأن المرأة هي التي تحمل الأفضل عبر إشارتها الى حمل مريم العذراء بالسيد المسيح. لا أحد يعرف هل هذه واقعة حقيقية أم لا، لكن المعروف أن كاسيا أسست سنة 843 رهبنة خارج أسوار القسطنطينية، والأديرة هي المكان الوحيد الذي تستطيع فيه المرأة اثبات جدارتها عبر التعليم والتأليف والكتابة ونسخ الكتب والانشغال بالأعمال الفنية.
يُعرف أن كاسيانا هي من ألف نص ولحن عددٍ من الأناشيد الكنسية البيزنطية، ولا يزال نحو 23 من هذه الأناشيد جزءاً من الليتورجيا الارثوذكسية (الطقس البيزنطي) حتى اليوم. وتؤدى هذه الأناشيد من قبل مختلف الكنائس الارثوذكسية، باليونانية أو بلغات أخرى مثل العربية، أشهرها نشيد الأربعاء من أسبوع الآلام (يعرف بالعربية بعنوان "المرأة التي سقطت في خطايا كثيرة")، وتسابيح مريم (لعيد الميلاد). وقد حُفظت هذه التراتيل بفضل عملها في الدير وتدريس الراهبات هذه التراتيل، فادخلت بالتالي الطقس البيزنطي، بالاضافة إلى مئات القصائد التي لم تدخل الطقس. من الصعب التوثق من صحة نسبة هذه الأعمال لكاسياني، فتغيير الاسم والانتحال كان شائعاً خلال عملية استساخ المدونات والمخطوطات بشكل متواصل. توفت كاسياني في واحدة من الجزر اليونانية، وكرست قديسة بعد وفاتها (يعتقد انها توفت في سنة 865)، وخصص يوم السابع من أيلول للاحتفال بها.
هناك صلات قوية بين المقامات البيزنطية والموسيقى اليونانية مع الموسيقى العربية والشرقية عموماً. كلها تستعمل أبعاداً موسيقية متشابهة (لكنها ليست متطابقة) بسبب اعتمادها على السلم الموسيقي الطبيعي والفهم الفيثاغوري للموسيقى المبني على أساس الموسيقى الرافدية البابلية. تستعمل الموسيقى البيزنطية أربعة أجناس رئيسية، تشكل ثمانية ألحان، فيقال اللحن الأول أو اللحن الثاني. الأجناس هي الدياتوني (ذياتونيكي) والكروماتي (خروماتيكي لين وقاسي) والهارموني (أنهارمونيكي). وتقترب هذه الأجناس والألحان كثيراً مما نعرفه اليوم في الموسيقى العربية والتركية، فاللحن الأول (من جنس الذياتوني) مماثل للبيات والهزام العربي، والرابع (من جنس الذياتوني) يماثل السيكاه مثلاً.