TOP

جريدة المدى > عام > الفنان التشكيلي كاظم الخليفة والرسم كلحظة تألق نوعية

الفنان التشكيلي كاظم الخليفة والرسم كلحظة تألق نوعية

نشر في: 31 مارس, 2018: 07:21 م

 د. حسين الهنداوي

مسندُ الرسم العريق بدا مثله مستغرقاً في الهمّ.. حين زرته آخر مرة في عاصمة الضباب، كما لو أن لفن الرسم ثمناً باهظاً يؤديه الفنان من طرفٍ واحد وصامتاً وفي غفلة من العمر المنساب كالنهر الى لحظة أخرى من التنائي، يفنى معها، تدريجياً، عنفوانُ مغامرةِ علاقةٍ كانت زاهية ومفعمة بالطلاسم بينهما كما بين ندّين متواطئين حد التماهي. عبث السنين بدا ماثلاً هو الآخر في الكلمات والنظرات. بيد ان القطيعة قرار لا يتخذه مثل هذا الفنان التشكيلي العراقي الطويل الصبر أمام الالوان الا اذا طفح الكيل وهاجت الشجون.

مسندُ الرسم العريق بدا مثله مستغرقاً في الهمّ.. حين زرته آخر مرة في عاصمة الضباب، كما لو أن لفن الرسم ثمناً باهظاً يؤديه الفنان من طرفٍ واحد وصامتاً وفي غفلة من العمر المنساب كالنهر الى لحظة أخرى من التنائي، يفنى معها، تدريجياً، عنفوانُ مغامرةِ علاقةٍ كانت زاهية ومفعمة بالطلاسم بينهما كما بين ندّين متواطئين حد التماهي. عبث السنين بدا ماثلاً هو الآخر في الكلمات والنظرات. بيد ان القطيعة قرار لا يتخذه مثل هذا الفنان التشكيلي العراقي الطويل الصبر أمام الالوان الا اذا طفح الكيل وهاجت الشجون.
وكاظم الخليفة رسام بخصال شاعر أيضاً. ومن هنا نزوعه إلى اللقطة العالية وإلى مناكفة الكتلة والمحاكاة الانطباعية أو الواقعية الفارغة، وإصراره الفطري، هو المنبثق من ريف الأرياف، والمنتهل من فائق حسن وكاظم حيدر وحافظ الدروبي والعصر الذهبي لاكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، واستاذ الفن التشكيلي في عاصمة التمرد تيزي اوزو بالجزائر، على هجران الحدود والدوغمائية والنرجسيات الصغيرة متوغلاً الى أبعد مديات التجريد، وهذا في معظم أعماله التشكيلية في الواقع، مانحاً بذلك فعل الرسم ذاته تسامياً وتجليات جديدة ومثيرة للدهشة. لست ضليعاً بمجاهل اللمسات التشكيلية والبصرية وأسرارها، بيد ان همّ استدراج اللحظة التشكيلية الى اقصى حد من القطيعة بل المفارقة مع الجذور، لم يستكن يوما لدي هذا الفنان ودائماً على حساب تهميش المدرسي والمعتاد والتراثي وحتى السهل الممتنع في محاولة متأنية ومضنية لتحقيق حالة تكامل حيوي وحر، وتجريدي ايضا، داخل فن الرسم، تفضي الى حوار وحتى مواجهة بين لحظات الرسم ذاتها، ليغدو الأخير نفسه محور الفعل التشكيلي وغايته.
وفي رأينا، فان هذا الفنان المتميز، يستفيد بعناية فائقة، وفي نفس الوقت، من قدرة مثيرة على تطويع الرؤى والتكوينات وفي توظيف الخامات التشكيلية وتقنيات الرسم في عمله الذي يبدو همّا بذاته لديه وتحديّاً متجدداً، رغم مهارات لافتة الى جانب ثقافة تشكيلية واثقة ومرهفة في آن، ومشغولة، بتفاتر واضح أحياناً، بهاجس طرح ذات الاستفهام الكوني الأبدي عن الفن وليس التشكيلي وحده: ما ضرورته؟
وثمة شغف دؤوب أيضاً لدى كاظم الخليفة في تبرئة ذمته من الوهم، وهم الضرورة، علنا، انما دون ضجة أو اصطناع. وهذا الميل قديم ومتجذر ومفرط احيانا. واسماء أبرز اعماله حملت هذا النزوع الذي ظل حاضرا في كل معارضه الشخصية في العراق والجزائر والمانيا وايطاليا وهولندا وخاصة في المملكة المتحدة حيث اقام معرضه الشخصي الاول على قاعة غاليري الأربعة في لندن عام 1993 حاملا عنوان "مسودات حرب" كانت قد وضعت أوزارها على تكوينات تفتك حتى بالمخيلة وأشكال وألوان هوجاء من دمار وحرائق الأرض والبشر، الأعز في السر والعلن، وليس أي أرض وأي بشر بطبيعة الحال. معارضه الشخصية العديدة اللاحقة على قاعة غاليري بوسك في العاصمة البريطانية واصلت ذلك الإصرار حاملة على التوالي عناوين "دراسة سطح" لأحدها في 2001 و"بحث لأجل لوحة" لثانيها في 2003. و"في موازاة حدث" لآخر في عام 2005"، إضافة إلى معرضين مشتركين مع الفنانة اناهيت سركيس بعنوان "توقيعان على لوحة واحدة" احدهما على كاليري بوسك في 2006 ، والثاني على كاليري بلاتفورم في امستردام عام 2009، وكذلك المشاركة في عدد من المعارض الجماعية في العراق بين 1971- 1976، ابرزها المعارض السنوية لجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، والمشاركة بين 1976- 2011 في عدد من المعارض الجماعية في بلدان عربية وأوروبية كثيرة منها الجزائر وايطاليا والمانيا وبريطانيا وهولندا وفرنسا وكذلك معرض (العراق والحداثة) في واشنطن بالولايات المتحدة الاميركية. وحوّل أعماله هناك العديد من المقالات والمقابلات منشورة في صحف عربية واجنبية شتى التفت هي ايضا الى ذلك المسار.
وتلك الاسماء الاشكالية التي حملتها معارض ومجموعات لوحات متميزة اثارت التأمل الجاد دائما بتواصلها وتماسكها الوجودي وايضا بطاقة هذا الفنان المسكون بنزعة البحث عما وراء اللقطة الممكنة في عملية تبدو صوفية احيانا لولا ديناميكية حيرة خفية تمور فيها. وهذه النزعة الثنائية تأصلت تلقائيا لديه معبرة عن نفسها في ذلك المرتجى، الفن، الذي يأتي ولا يأتي، فنظل نعيش له وبانتظاره في آن.. او بكلماته: "تلك اللحظات التي تأتي وكأنها مصادفة او عن وحي او الهام، كيف يمكن استدراجها ومسكها وادامة التحكم فيها، أي امكانية امتلاك الحرية، الفن، ومسكه مسك اليقين".
ولا يخفي كاظم الخليفة أن تغلب الفن التجريدي على غيره من الأساليب كان مبكراً لديه وعلى الأرجح بتأثير الإعجاب ثم التأثر المؤكد من جهة بمدارس الفن الحديث وتياراته العراقية عبر اساتذة كبار. ومن جهة أخرى، بدافع تشوق فطري للحرية لديه عبر عن نفسه في مساحات لونية وتكوينية وتعبيرية ظل يتحرك فيها او عبرها للادلاء بلحظات يتكامل فيها الشكل مع المعنى، والبهجة مع التوق وكل المكنونات المتضادة الاخرى في حركة مفعمة بتكامل الالوان والظلال والاضواء مع العتمة والزيت ومع الماء ايضا كأنها قدت من كتلة هواجس وانفعالات داخلية وصور وخيالات مباغتة تبحث دائما عن الانطلاق او اعادة الانطلاق بعيداً عن البدايات والنهايات أيضاً وحيث ينبغي أن يستمر الرسم وحده وكأنما الى الابد.
هل يستعيد كاظم الخليفة مسند رسمه العريق الذي تركه عارياً في ليلة ليلاء على حافة درب مؤخراً؟ ليس مهما الجواب. اذ يظل الفن، التشكيلي او غيره، محنة بذاته للفنان لا سيما في حضرة "الاحساس الدائم بالتورط معه في تجربة العيش" كما قال هذا الفنان التشكيلي العراقي مرة، لأن عليه المكابدة كي يدنو من حال او فكرة او واقعة أصيلة "قبل أن تطفئ الانوار ويغلق المشهد" فيما لا يبدو إنجاز لوحة جديدة الا مجرد حدث يعيش الى مدى ما ، أو الى حالة جديدة.. وهذا قد يشي بقدرية او بالاحرى عبثية وجود يزداد عتمة وغربة ونأيٍ، ما يجعل القطيعة تلك محض لحظة بديلة للتماهي مع الفن، او مع الجميل لا فرق، وتلك لحظة نوعية متعالية البهجة على اية حال..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

تخاطر من ماء وقصَب

يحيى البطاط: الشعر والرسم طريقان لمعرفة العالم، أو لتسكين الذات

موسيقى الاحد: كونشرتو البيانو الثالث لبيتهوفن

مقالات ذات صلة

"جـِيُــــو بُــونْـتــِي"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/03/5862-7.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا >"جـِيُــــو بُــونْـتــِي"

د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي * الى حسين حربة تعيد سيرة "جِيُو بُونْتِي" (1891 – 1979) Gio Ponti المعمار الايطالي المعروف مصائر سير نخبة المبدعين الايطاليين، خصوصاً فيما يتعلق بتنويعات الابتكار وتشعب اهتماماتهم وبراعتهم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram