ستار كاووش
( ٢ )
كان الفنانون الاميركيون من أصل افريقي في بدايات القرن العشرين، حين يدخلون الى فرنسا يؤخذون على محمل الجد وتتاح لهم الفرص لإثبات مواهبهم، عكس ما حصل معهم في بلدهم الأصلي أمريكا، حيث كانت الأبواب التي صنعوها بسواعدهم، هي ذاتها التي تغلق في وجوههم. لذلك غادر الكثير منهم نحو باريس، لتتفتح زهور مواهبهم هناك تحت شمس عاصمة النور. وحتى الذين كانوا يشعرون بالحنين نحو بلادهم البعيدة، لم يرغبوا بالعودة (لِيُحبَسوا) في جيتوات مغلقة، تزيد حياتهم عتمة. وكأن المصباح الذي اخترعه مواطنهم أديسون لم يستطيعوا إضاءته إلّا في باريس، والشمس التي كانت تلهبهم فوق مزارع القطن، أشرقت بشكل جديد لأستقبالهم في عاصمة الفن.
والفنان هنري تانر (١٨٥٩-١٩٣٧) واحد من هؤلاء الفنانين الذين وقفت العنصرية أمامهم وأغلقت كل المنافذ أمام مواهبهم وتطلعاتهم الفنية. ولد هذا الفنان في بنسلفانيا، وهو يعود لأم كانت ضمن (العبيد) في ولاية فرجينيا، وقد هربت من العبودية الى الشمال عبر أنفاق تحت الأرض. ورغم الرفض الشديد والمعارضات القاسية التي لاقاها تارنر الشاب، فقد إلتحق بأكاديمية بنسلفانيا، ليصبح الطالب الأسود الوحيد، ومضى في طريقه رغم كل الصعوبات والعوائق التي لقيها هناك، وأثبت مكانته وتفوقه في الأكاديمية، مما دعى أستاذه الفنان الشهير آنذاك توماس أيكنس أن يرسم له بورتريتاً لوضعه في أرشيف الأكاديمية، وكان هذا أكبر تكريم يحصل عليه من قبل أستاذه.
كان رجاءه وهدفه الوحيد هو إيجاد نفسه وإثبات قيمته الفنية، وقد حاول العيش من خلال بيع أعماله، لكنه إصطدم بعقبة العنصرية، وكان عدم قبوله في المجتمع مؤلماً. يصف تانر تلك الأيام في سيرة حياته التي كتبها بعنوان (حكاية فنان) بقوله (كنت أشعر بخجل شديد من جراء معاملتهم لي. أية إنسانية هذه التي تجعلني غير مرغوباً بي؟ رغم شعوري أن لي حقوقاً كاملة في بلدي الذي ولدتُ فيه) ويستطرد قائلاً (كانت بعض الأحداث تسبب لي أسابيع من الألم، وكلما تمر بخاطري بعض الأحداث البغيضة التي حدثت لي، يغرق قلبي في عذابه من جديد). وهكذا لم يكن لدى هذا الفنان أية فرصة للبقاء في بلده الذي ولد فيه، امريكا! ليغادر سنة ١٨٩١ إلى فرنسا التي أمضى فيها كل حياته الباقية.
غالباً من يُنظَرُ الى اعمال تانر بإعتبارها واقعية، لكن رغم تركيزه على التفاصيل نراه يستعمل فرشاته بحرية وجرأة. وقد مزج العديد من التقنيات في لوحاته، ليقدم توازناً مدهشاً بين المهارة الكبيرة والتعبير المؤثر، وقد إستخدم النور والظل بطريقة تبرز عاطفة ومزاج الشخصيات، كذلك لإضافة بعد رمزي للمواضيع التي يرسمها، كما في عمله (البشارة) حيث جسَّدَ الملاك جبريل على شكل عمود ضوء باهر ينزل من الأعلى، مشكلاً مع الرف في أعلى الغرفة ما يشبه الصليب. الكثير من لوحاته تحمل طابعاً دينياً وتغلب عليها أجواء تبدو كئيبة. لكن رغم ذلك نتحسس الحياة الداخلية للأشخاص، حيث تنعكس الفضيلة والخوف والقبول والدهشة على وجوه أبطال لوحاته.
تزوج تانر من جيسي أولسن، وهي مغنية أوبرا سويدية، وهنا إلتقت موهبتان عظيمتان في بيت واحد. لكن المواقف العنصرية لاحقته بسبب غيرة بعض الأشخاص من نجاحه، وأخذت تطرق سمعه كلمات من قبيل ( جاءت هذه المغنية الشقراء الى باريس كي تتزوج رجلاً أسود؟) أو (أنه موهوب، لكنه أسود) أو (أنا لا أعرف عمله، لكنهم يقولون، أن لديه موهبة!).
أثناء الحرب العالمية الأولى رسم تانر لوحات كثيرة من الخطوط الأمامية للمعارك، وقد منحته فرنسا بعد ذلك وسام الفارس، تقديراً لعمله كفنان.
وفي كل الأحوال، كان تانر رساماً عظيماً، وقد عَدَّهُ النقاد، أعظم رسام أميركي من أصول أفريقية، على مرِّ الزمن. لوحاته موجودة في الكثير من متاحف العالم، ولوحته (الكثبان الرملية لحظة غروب الشمس) معلقة الآن على جدران البيت (الأبيض).