TOP

جريدة المدى > عام > الأدب وإعادة التوجيه

الأدب وإعادة التوجيه

نشر في: 14 إبريل, 2018: 05:59 م

ياسين طه حافظ

كم يبدو إني عكست طبيعة الكلام. فالعمتاد أن نتحدث عن الحياة وكيف توجه الأدب. اقول نعم هو الحديث الذي ورثناه ونكرره. لكن الأدب خطاب الى الآخر. وأي خطاب بانتظار استجابة . والاستجابة تتم بوقوع أثر. والحياة، كما ورثناها، دائماً ما نرث بتطورها اخلاقيات متطورة. وهذه الاخلاقيات نوع من القوانين تحكم السلوك. فلكي تتغير لابد من أن نغير الموروث الاخلاقي باتجاه ما يرتضيه الظرف والاحتياج الجديد. من يقوم بهذه المهمة ليس الشرطة ولا أتباع الحاكم. الذي يقوم بهذا، بلطف ورضا وبلا قهر أو تسلط، هو الأدب. فعلت مثل هذا الأساطير وفعلته الخرافات والملاحم وفعلته الروايات والقصائد. وتسهم في فعله اليوم الفنون كلها. هي تصقل السطوح الخشنة وتكشف العيوب والايذاء مقابل كشفها الجمال ومصادر الهناء اليومي الذي يتخلل ذلك.
نحن نعلم أن الاخلاق متعلقة بطبيعة ونوع علاقاتنا بالآخرين وبالعالم الذي نشكل جزءاً منه. الأدب يعيد، يعدل، هذه العلاقات. دور الملاحم والرواية كان دوراً عظيماً. الشعر كشف جمال التحول وما يتفتح في هذه العلاقات من متع ومعانٍ. بهذا، ومن غير مواجهات حادة، يُحدث الادب تحولات اخلاقية. وهذه التحولات تؤثر في جذرية اتجاه الحياة. "الأدب المستقبلي" كانت عبارة أخّاذة ومؤثرة وأن لم يبقوها بعافيتها. و "أدب الحياة" عبارة دقيقة وعظيمة الدلالة وأن لم يبقوها بعافيتها. مع ذلك ظلت نتائج الاثنتين واضحة في المجتمعات وصعب على أحد مع تطرفه أو تصلبه أن ينكر النتائج الجديدة. لولا تأثر الناس عاطفياً وفكرياً بها لما كان هذا المبيع الذي يصل حد الملايين ولا كان رواد الافلام المبنية على روايات بهذا العدد الضخم. ولا حتى صحبتنا وصحبت الناس بعض الشخصيات المهمة في الملاحم أو في الروايات أو أبطال المسرحيات البارزة وفي القصائد الكبيرة وفي عموم تاريخ الأدب .
لكن هذه الإرادة الفاعلة وهذه الروح الجريئة في الأدب، ممتَحنة بأمر. أعني إن المنتِج الادبي، ثوريٌ بطبيعته وثوريٌ مراقَب. وإذا عمل وهو يفكر بالرقيب فيتحرك مقيداً. ليس هذا حسب، ولكننا لا نريد أدباً اتباعياً. نريد أن نكتب، ويجب أن نكتب، وقد ألغينا الرقيب لنكتب جديداً. أعني نكتب باخلاقية جديدة. وألاّ نستعيد في الكتابة ما الفناه ونحن نريد إلغاءه! سنعمل اذاً ضد إرادتنا .
ولهذا فأنا حين اقرأ، يعنيني كم يكتب الكاتب جديداً وكم ينتبه الشاعر الى جديد! كتابة ماهو معروف حتى اذا تفوق التعبير وازدانت اللغة، لن تحركنا هكذا كتابات الى أمام. افرحُ لاستقلالية الكاتب، لتحرر ذاته، لأخلاقيته الجديدة الخاصة ولموضوعاته أو موضوعه الجديد. استلاب الموضوعات والافكار وتكرارها خيانة للذات، إلغاء لها وسوء اخلاقي. إننا بمثل ذلك نخسر طاقة "نضالية" في التغيير، بالاتيان بجديد و بتقدم الحياة أو في حال أخرى، خسارة كاتب كان يمكن لطاقته، لو أتى بجديده لا بما استعاره، أن تبهج الحياة وتبهجنا نحن العاملين لأن نأتي بجديد وأن نعمل كلٌ قدر طاقته على تقدم الحياة. لكنه للأسف ارتضى لنفسه أن يكون مِرداداً.
مئات، آلاف الكتب تصدر كل عام. كتب قليلة تُحدث ضجة. تحدث ارباكاً في المستقرات، تأتي بجديد! نسيان اننا نحدث تغييراً اخلاقيا في كتاباتنا، واننا نسهم في تغيير المستوى الاجتماعي باتجاه تقدم حضاري، يضع كتاباتنا في مستوى دون الذي يريده، يتمناه العالم وتسعد به المجتمعات. وذلك الجديد ليس أسلوباً جديداً حسب وليس تقنيات جديدة وحدها وليست افكارا جديدة ولكن كل هذه وباتجاه اخلاقي نريده.. كلٌ اسهم من قبل وكلٌ يُسهم اليوم. لكن الاسهام المحترم هو بالجديد لا بالتكرار ولا باعادة ما كان. قد يكون لتكرار افكار الغير جدوى ولكن هذه الجدوى لا تتجاوز التذكير ولا تتجاوز حدود التأكيد على عظمة وأهمية ما كان، لا على ما لم يكن من قبل.
في كل كتابة جديدة كسر لوثن. وبتحطيم الأوثان وزرع الجديد نتقدم ونسهم في التقدم. ولهذا نحن مع الجدِّة في الكتابة والتفكير. يعجبني من الدين أن السخرية والمفارقة ليستا من المألوف أو الدائم فيه. ذلك لأن التوجه الى هدف عظيم، الى الله!
ولهذا أرى العمل الادبي الكبير والفاعل والمهم في تاريخ الادب، هو الذي يستطيع ان نجد في قراءته وتوالي الافكار فيه ما خلاصته ان تكون لكاتبه صخرة ايمان يقف عليها وان هذا الايمان يجمع بين الله والحياة والمستقبل وتقدم الانسانية وسلامها. لا أرى صواباً نسيان حقيقة ان للادب مهمة "تبشيرية". والتبشير هنا بحقائق الحياة، بوحدة المصير الانساني وضرورة علاقات محبة وشراكة في المصالح وحفظ سلام العالم. ومن خلال العمل العقلاني لتغيير الموروثات التي صارت تعرقل التقدم البشري الى امام.
أود أن أشير هنا الى روايات همنغوي التي تبنت العديد من هذه الافكار، دونما مباشرة واضحة. نعرف "الشيخ والبحر" ونعرف "والشمس تشرق أيضاً" ، مثالين الأول عن خيبة المسعى، وهي حال في الحياة معروفة. المسعى مؤلم ولكنه يستمر والبشر يواصلون المسعى وسيستمرون. والمثال الثاني، ليست ملاكمة ولا مغامرات ولا حوادث حربية ولكنها ما أوجزه العنوان : إن تلك لا توقف الحياة وإن الشمس غداً تشرق أيضاً والبشرية تسعى...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

تخاطر من ماء وقصَب

موسيقى الاحد: كونشرتو البيانو الثالث لبيتهوفن

التقاليد السردية بين الأصالة والأقلمة

مقالات ذات صلة

"جـِيُــــو بُــونْـتــِي"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/03/5862-7.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا >"جـِيُــــو بُــونْـتــِي"

د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي * الى حسين حربة تعيد سيرة "جِيُو بُونْتِي" (1891 – 1979) Gio Ponti المعمار الايطالي المعروف مصائر سير نخبة المبدعين الايطاليين، خصوصاً فيما يتعلق بتنويعات الابتكار وتشعب اهتماماتهم وبراعتهم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram