TOP

جريدة المدى > عام > مسرحية تقاسيم على الحياة.. بين معمارية النص ومعمارية التمثيل

مسرحية تقاسيم على الحياة.. بين معمارية النص ومعمارية التمثيل

نشر في: 15 إبريل, 2018: 06:09 م

د. فرحان عمران موسى

لم يفتأ جواد الاسدي من عنبر تيشخوف ، وواقع حاله يستعيض من سيبويه "أموت وفي نفسي شيء من العنبر"، مثلما لم يفتأ رغم المنفى من عراقيته ، فهذا الجواد صَهِلَ جماليا بأوجاع العراق ، في مسرحية تقاسيم على الحياة ،ونساء في الحرب ،وتقاسيم على العنبر ، وحمام بغدادي ، ومثله تيشخوف لم يفتأ من انحيازه لمهنة الطبيب ، وهو القائل: " الطب هو زوجتي والأدب عشيقتي" ، ففي مسرحية "ايفانوف" يتموضع الطبيب بجانب الحق ويدافع عن زوجة ايفانوف ، وفي مسرحية "الخال فانيا" يثيرك اهتمام الطبيب "أستروف" بمرضاه ، وفي قصةعنبر رقم(6) ، التي استلَ الاسدي منها مسرحية " تقاسيم على الحياة " شكلَ "أندريه" الطبيب المتدين ،اغتراب الوجود الإنساني بين صورة العقل وصورة الواقع ، وهو القائل : "العقل يعطيك ملمحاً الى الالوهية الأخيرة ... وانطلاقاً من هذا .. يصبح العقل المصدر الوحيد المتاح للمتعة ..أما نحن فلا نسمع ولا نرى من حولنا العقل .. أذن نحن محرومون من المتعة" ، ووجد في العنبر المسؤول عليه ، والذي يَرزَحُ بالفوضى والخراب والإهمال والعفونة ، متعة عقلية عند النزيل المريض" إيفان " المثقف ، ومرآة للفردوس المفقود ، وأيقن "أندريه" أن "ايفان" يشبههُ ولا فارق بين الذوات سوى أدوار الحياة ، طبيب – مريض ،ونزلاء العنبر يعانون من غياب اليقين الروحي في ظل الحداثة السائلة وفق مقولة " زيجمونت" مما أدى الى ارتفاع رصيد مخاوفهم ، نتيجة تآكل البنى الفردية وانسحاقها في المجتمع،وانهيار منظومة الاخلاق الاجتماعية ... نزلاء العنبر لا يجيدون الانصهار في الأزمنة السائلة ... يعانون من التمحور حول الذات وانغلاقها الإنساني ... نزلاء العنبر فقدوا المتنفس الإنساني في أكسير التواصل مع الواقع ، وانغلاق ذواتهم تَكَوّر عِبر عملية تنويم ذاتي ، انعزالا عن الطغيان والانحلال ، فيصبح كل فرد فيما يشبه الفقاعة السابحة في زحام الطغيان المتوهم ... لا يملكون القدرة بمشاركة الواقع الاغترابي لذواتهم ... فالجهل ، النفاق ، الخادع ، التحذلق ، التسلق ، التلون ، كل أولئك الذين يتصفون بهذه المفردات يملكون ترسانة من مفردات الشرف والخلق لكي ينسبون بها انفسهم ، يصفهم " أيفان" في تقاسيم الحياة :" أن جهلهم فظ .. حياتهم حيوانية .. مقززة .. حقيرة .. تزدهر أهواء قسم كبير منهم في ظل العوز و الجوع .. لهذا صارت الحياة خانقة مملة ليس لدى الناس أي اهتمامات سامية .. حياة فارغة .. مهجورة .. ينوعها الطغيان و الانحطاط و النفاق ...الأوغاد شبعا أما الشرفاء فيقرصهم القريص و يلدغ أرواحهم الجوع " هذه المفارقة الاغترابية بين الواقع والذات لنزلاء عنبر رقم (6) ،وجدوا المفاهيم الإنسانية الصلبة تتشرذم وتنحال الى بخاخات سائلة تتعطر بها فئة ما .. طبقية أو سياسية أو حتى ثقافية ، وتتحول الى معابر نفعيةٍ هَرِيئَةٍ ، أكثر من كونها جسورا للتواصل والتفاعل الإنساني ، فتتلاشى معاني القرب الإنساني لتنحال في لوحة سريالية الى أزمنة وأمكنة سائلة ، لا يمكن لنزلاء العنبر ان تنصهر فيها ارواحهم الصلبة او تتحول ذواتهم الى فقاعات تسبح في جريان فساد النظم الاجتماعية السائلة والسائدة.
لم يملص الاسدي من عباءة تشيخوف ، في تأسيس معمارية الرؤية الإخراجية ، فقد أعلنت منذ بدء الخطاب عن توافقها مع المشروط في معمارية المكون النصي التشيخوفي ، ولم تسعَ الى عمليات الحفر والتفكيك في البنى المركزية النصية المتوالدة ، فقد أستنطق خطاب العرض علامات النص الفكرية محاولاً تقليص عدد الشخصيات والارتكاز على اشتراطات المؤلف في مركزية الحدث المتمثلة بالطبيب " اندريه" والنزيل " إيفان" ، وحذف واستعاض بشخصيات أخرى لاستكمال السرد الصوري للخطاب ، لذا جاء التأثيث الفكري لمعمارية العرض منسجمة مع المقترح الفكري المتمثل بفضاء العنبر ،كمكان تتمظهر به انساق العرض ، وهذا ما دفع الاسدي الى انتخاب معمارية " مسرح المنتدى" كونها تتوافق مع معمارية العرض ومعمارية النص ، مستندة على معمارية ثالثة ، والتي تشكل المرتكز لبث الأثر الجمالي وهي معمارية الممثل ، فهذا التوافق بين معماريات ثالوث التوالد الجمالي (النص – الفضاء – الممثل) حَملت ذكاءً وخبرةً جمالية لدى الاسدي باستدعائها كمنطلق أبداعي في انتاج المعنى ، يضاف الى ذلك ما افرزه المنحى الفكري والفلسفي للعنبر المغلق المنعزل كمعمارية رابعة تتفاعل مع المرجعيات الذهنية والنفسية للشخوص التي تعاني من العزلة والانغلاق الذاتي، كما مر ذكره ، فاختزلت الرؤية الإخراجية تأثيث المكون البصري للفضاء في أربعة جدران حديدية صلبة قاسية ( الرابع وهمي مفترض)وتركها دون طلاء وبلونها الحديدي نفسه ، لتعطي دلالة قسوة تقاسيم الحياة ، قسوة – المكان المعيشي – المكان النفسي للشخصيات ، وجعل النوافذ التي كانت عند تيشخوف تطل على الشارع المحاذي للمستشفى ، جعل منها مركزية في الفضاء و تبث دلالات مركزية ، تشاكس وتواجه وعي المتلقي بكل تشكيلاتها الصورية بوصفه المتغير الاجتماعي لتعزز القيمة الدلالية وتعمق الهاجس الجمالي ، فتَشَكَلَ الفضاء كمستودع كيميائي لمكونات المحتوى الفكري والصوري ، وكمعمارية استغلت صلابة الحديد بشكله الخام مع قسوة الحياة وتقاسيمها وانكماشها وضيقها ،فقد ساعدت المعمارية الضيقة ، ضيق المكان – ضيق الحياة – ضيق الروح – ضيق الوجود ، في تمازج مع المتلقي وقربه من مساحة التمثيل ، الأمر الذي استنشق أدق تنهدات وأنفاس الممثلين ، بيد أن معمارية المكان أربكت النسق الحركي لمعمارية التمثيل فجاءت محكومة بدلالات الفضاء الضيق لتستدعي دلالات الاغتراب الإنساني للوجود ، فقد حَمَلَت معمارية التمثيل طاقة جمالية سرعان ما تسلقت لتتربع وتستحوذ المركزية الذهنية للمتلقي ،لاتسامها برشاقة بصرية وبالصدق التعبيري في المقترح الجمالي ، وان ارتحلت ذهنية المتلقي الى فوضوية النسق الحركي عند المجاميع ، اذ قذفت الرؤية الاخراجية بالنسق الحركي للمجاميع بأمتار معدودة ، لذا جاء النسق الحركي للمجاميع خجولا يحايث مردودات المركب الفكري للعرض وللشخوص ، الأمر الذي جعل المتلقي منذ المشهد الاستهلالي (مشهد الطاولات المستطيلة) كتشكيل بصري امتلك ركام الأسئلة الكونية ، إلا أن الرؤية الاخراجية بَخُلت في إستثمارها وتوظيفها في اللوحات التالية للسرد الصوري لكسر افق التوقع عند المتلقي الذي سرق لعبة الرؤية الاخراجية وخبرها ، بمشهد حواري ثم فاصل حركي او موسيقي ، مشهد حواري - فاصل حركي او موسيقي ، وان كانت تمتلك الأثر الجمالي الرشيق برشاقة معمارية التمثيل التي جاءت مُتسِّيدةً في خطاب العرض ، على الرغم من اتجاهها الى العنف الجسدي والتعامل مع الاكسسوارات بعنف خَشِن ، خَدشَ التشكيل البصري والذي عادة ما نراهُ في عروض المسرح العراقي كمشاع دلالي لمفهوم القسوة ، بينما يعرف "آرتو" القسوة :" بأنها هاجس متكون عند المشاهد من المتناقضات وليس مُرسل من فعل درامي عنيف " ، وهذا المفهوم الآرتوي تماثل مع الممثل " اياد الطائي" في تجسيده شخصية " ميخايلوف" وهي تضمر العنف السيكولوجي وتجسيد مدى قوة الألم التي تعانيه الشخصية دون اللجوء الى الصراخ والعنف الجسدي مما شكل استفزازا جماليا لإنتاج علامة حَمِلَت تأويلاً لمفهوم القسوة وفق نسق علاماتي سعى الى تفجير المعنى الدلالي واحلال التواتر الجمالي كمعطى مستنتج من التشكيل الصوري الذي يحيل المتلقي الى مفهوم إدارة الخوف في الأزمنة السائلة التي تتماثل مع الهم الإنساني المؤلم ، وإن كانت معمارية الخطاب لم تستدرج المتلقي متعة التأويل ، فمدركات العرض لم تجبر المتلقي الى منطقة تعددية القراءات ، ولم يجهد المتلقي ذهنيته في فك شفرات الخطاب عبر الازاحة الدلالية وفق مفهوم المركب الصوري لمسرح ما بعد الحداثة ، بل اعتمدت معمارية : المخرج – الممثل ، على قوة الكلمة وسحرها في تجسيد المنحى الفكري والفلسفي ، وتحاشت عن الاستعاضة الصورية في تأسيس جدلية المعنى ، واستدعاء المتخيل كمرجعية تْأويلة ، فرشاقة الصورة وصرامتها ، ومعمارية التمثيل ، وعدم تهميش النص التشيخوفي ، واعتماد الفضاء المغلق (مسرح العلبة)، احالت المتلقي الى مسرح الرواد في السبعينيات ، حيث سحر الكلمة للمكون اللفظي ، والقدرة الواعية للتجسيد في الأداء ، بيد أن النظام الاشتغالي لعرض " تقاسيم على الحياة" أمتلك الأثر الجمالي الذي هيمن على المتخيل الذهني للمتلقي طيلة (80) دقيقة دون أن يرتحل عن عنبر الاسدي ولو للحظة ، مما شكلت إستلاب جمالي يندر تكرارهُ ، ولابد للمتلقي العراقي أن ينتظر صهيلاً جمالياً آخر من جواداً عراقياً أصيلاً .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

تخاطر من ماء وقصَب

موسيقى الاحد: كونشرتو البيانو الثالث لبيتهوفن

التقاليد السردية بين الأصالة والأقلمة

مقالات ذات صلة

"جـِيُــــو بُــونْـتــِي"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/03/5862-7.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا >"جـِيُــــو بُــونْـتــِي"

د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي * الى حسين حربة تعيد سيرة "جِيُو بُونْتِي" (1891 – 1979) Gio Ponti المعمار الايطالي المعروف مصائر سير نخبة المبدعين الايطاليين، خصوصاً فيما يتعلق بتنويعات الابتكار وتشعب اهتماماتهم وبراعتهم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram