صلاح نيازي
تبدأ ملحمة كلكامش بـ" هو الذي رأى.." دون مسمّى. ولكنّ الراوية ينعته بأنه كلّيّ المعرفة Omniprescient.
المفارقة إنّ الضمير "هو" معرّف لغة ولكنه هنا مجهول بمثابة اسم نكرة.وكلما أمعن الراوي في إضفاء الصفات على ذلك الـ "هو" ازداد الموصوف غموضاً، وإلغازاً ،وقتئذٍتستنفر الحواس بفضول وترقب. مَنْ ذا يكون هذا الـ"هو"؟.
كانت تلك التسبيحة بمثابة جوقة موسيقية تسبق عادة مواكب الملوك. راح الراوية يمعن في إثارة فضولنا كقراء أو مستمعين، فأغدق صفات إلهية عليه، وبهذه الحيلة الفنية الحاذقة زاد من فضولنا، وفي الوقت نفسه أبعدنا هيبة وجلالاً عن ذلك المجهول الذي يتمتع بكل ما هو خارق..
قال عنه الراوي مثلا:
"إنه رأى كل شئ
خبر كل شئ
وهو عارف بكل شئ
بما فيها الأسرار، وأنباء ما قبل الطوفان.."
يمعن الراوية وكأنْ بثمل، في سرد المعجزات.: حباه إلإله شمش ، إله العدل والشرائع ،بالحسن
وخصّه الإله أدد، إله الرعود والعواصف والأمطار، بالبطولة. تمعنت الآلهة الأخرى به فجعلته صورة كاملة..
كذا إذن، فهذا أوّل مخلوق ،كما يبدو ،على وجه البسيطة، وله أكثر من خالق.!مَن يكون هذا غير .كلكامش ذي الجبروت والطغيان! لكن ْنسيت الآلهة أن تركّب في صدره الضخم قلباً يرقّ أويرحم.قال الراوية. "لم يترك آبناً لأبيه، ولا عذراء لحبيبها، ولا آبنة المقاتل، ولا خطيبة البطل..."
مع ذلك فالدموع في ملحمة كلكامش .لا سيّما دموع كلكامش طرازخاص لا مثيل له على ما يبدو.
المعروف أنه ما من عيون فاضت فيها الدموع، كعيون الشعراء العرب. محاجرهم محابرهم. يمتحون منهافي كل ملمة. مع ذلك فليس هناك وجه، ولو من بعيد، للمقارنة بينها وبين الدموع في ملحمة كلكامش. .مثلاً لا دموع الخنساء، هذه الصناجة الساحرة على شقيقها صخر، ولا دموع آبن الرومي على طفله الأوسط محمد، وهي أفجع رثاء مرّ بي في حياتي الأدبية.، موازية لدموع كلكامش.
جعلت الخنساء بحذق فطري مطبوع موت شقيقها صخر، حدثاً متكرراًعن طريق ظاهرتين طبيعيتين تتواليان يومياً . الظاهرتان هما : شمس الصباح وشمس المغيب.. لا بدّ منهما.
"يذكرني طلوع الشمس صخراً
وأذكره بكلّ غروب شمسِ"
أما آبن الرومي فإنه أبّد حزنه ببراءة لعب:"الأخوين الباقيين"، الذين باتا يلذّعانه "كلذع النار". اللعب لا يتوقف، لذا فالحزن متأجج لا يتوقف أيضاً..
الدموع في كلتا الحالتين، محدودة بإطار فردي ، رغم ما فيهما من ..تمزق نفسيّ حقيقيّ.
يمكن القول إن أقرب رثاء عربي ينتمي إلى سلالة مرثيات ملحمة كلكامش، مع الفارق بالطبع هي رسالة الشريف الرضي في رثاء أبي إسحاق الصابي نثراً. في هذه الرسالة شئ يقرب من التحوّل في جبلة الشريف الرضي النفسية وحتى الدينية حتى كاد يكون شخصاً آخر مناقضاً . كاد يشك في حكمة الموت وكاد يتوصل إلى عبثية الوجود ...قال الرضي:"إلى الله أشكو دهراً حال دونه وقطع ما بيني وبينه، وأفردني عنه إفراد .الأم عن جنينها، والشمال عن يمينها...وحننت إلى قرب الوفاة وسئمتُ تكاليف الحياة(رسائل الصابي والشريف الرضي ص 106) لكن حتى هذه الرسالة لا تهمّ إلا فرداً واحدا مهما كان عظم مأساته.
الدموع في ملحمةكلكامش بالمقابل كونية لا تُحدّ. دموع عشتار مثلاً كادت تطيح بهيكلية العالم حين بكتْ أمام أبيها آنو فأذعن لمشيئتها وسلّحها بالثور السماوي.
دموع أنكيدو مثلاً اشترك في استدرارها ثلاثة من الآلهة غزته بصورة حلم أو بالأحرى جيثوم وقررت موته. في الحلم الثاني ظهر له فتى أشبه بوجه طائر "زو" بمخالب كمخالب نسر وقاده "إلى دار الظلمة"إلى العالم السفلي حيث مساكن الموتى. بكى أنكيدو من هذا المصير، وخاف من الموت. بكى لبكائه كلكامش. مواساة، عجباً يبكي كلكامش كالبشر. من أين أتى بهاتين العينين الدامعتين. الآلهة
السومرية ساديّة، لاتبكي، وعيونها تجاويف متحجرة. كيف لهذا المخلوق المصنوع من أصلب المعادن، وعضلاته من أعتى الأمواج أن يرقّ ويبكي كما تبكي قصبة بردي؟
قلنا من قبل إنّ ثلثي كلكامش من مادة إلهية، وثلثه الثالث من مادة بشرية. هل إذن بدأ ثلثاه الإلهيان بالضمور، وشرع ثلثه الثالث ببسط بشريته، بكل ما فيها من ضعف و"خفض جناح "ورحمة؟
على أية حال، يمكن قراءة تطورات أو استحالات كلكامش النفسيةمن دموعه، وعلى الأخص من توقيتها..
ما من دموع أخرى يمكن قراءتها، كما تُقرأ خطوط الكفّ، كدموع كلكامش . إنها من أعمق الرموز وكأنّ كلكامش طبقات منفصلة رغم آتصالها. كل طور قائم لوحده..كلّ طور ينمّ عن كلكامش جديد.
بدأ ت المرحلة الأولى من دموع كلكامش ترطب عينيه ولم تكنْ إلاّ مواساة لصديقه أنكيدو.
دموع كلكامش في المرحلة الثانية تختلف رمزاً ومغزى.
قبل كل شئ ، تأكد انكيدو في هذا الطور من موته. لأن الآلهة الثلاثة قرروا الآقتصاص منه لأنه قتل الثور السماوي، وقتل خمبابا.
قصّ رؤياه على كلكامش وعيناه مغرورقتان.
تأكّد كلكامش، بصورة ما، من موت انكيدو، فاغرورقت عيناه بالدموع هو أيضاً، فقال:
"هل سيتحتّم عليّ أن أراقب أرواح الموتى
وأجلس عند باب الأرواح".
هكذا انتقلت دموع كلكامش من البكاء على أنكيدو ، إلى البكاء على نفسه هو. كانت في البداية مواساة فأصبحت قلقاً مؤرقاً.أكثر من ذلك اتخذت الدموع في هذا الطور صيغة أنثوية إذا صحّ التعبير. يقول الراوية:" فناح كلكامش "نواح الثكلى". وكما في المناحات النسائية راح كلكامش يجمّع لمناحته أكبر كورس بكائي في تأريخ الأدب، شمل "الدبّ والنمر والفهد والأيل والسبع والعجول والظباء، ونهري "أولا" والفرات ومحاربي أوروك.
لكنه وحده ناح نواح الثكلى تلك الليلة. بقي كلكامش مع أنكيدو ليلة كاملة. يناجيه فلا يسمعه.
ولم يرفع عينيه. عندئذ برقع كلكامش بيديه:
" صديقه كالعروس
وأخذ يزأر حوله كالأسد
وكاللبوءة التي آختطف منها أشبالها
وصار يروح ويجئ أمام الفراش وهو ينظر إليه
وينتف شعره ويرميه على الأرض
مزّق ثيابه الجميلة ورماها كأنها أشيا ء نجسة
ولمّا لاح أوّل خيط من نور الفجر نهض كلكامش..."
إذن كانت ليلة بكاملها لم تغمض فيها عين كلكامش. الظلام عادةً ما يوظفه صنّاع الكلام كحيلة فنية لتضخيم الحدث، وتوريث الهواجس.. (الغريب انّ من طقوس الكاثوليك بإيرلندا هو السهر على جثة الميت ليلة كاملة قبل دفنه وتسمّى بالإنكليزية Wake ومعناها الدقيق السهر على جثة الميت ،إنْ قصفاً أو عويلاً، ومنها جاء عنوان رواية جيمس جويس الشهيرة "السهر على جثة فنيكان")
لنتمعّنْ رويداً في المقطع أعلاه، فهو من أماليح الشعر، وفيه كلّ ما تحتاج إليه القريحة من توابل
فنية مشتهاة.¬¬¬¬¬¬ . قبل هذا المقطع، لماذا قال شاعر الملحمة :"وكان كلكامش يبكي بكاء الثكلى" ولماذا ذكر "العروس" ولماذا ذكر "اللبوءة"، وكلها مؤنثات، هل أراد شاعر الملحمة أن يكبر حجم المأساة، فجعلها على لسان آمرأة؟
أكثر من ذلك خص الشاعر البكاء ببكاء الثكلى وهو لا ريب أعلى وأعمق وأصدق. .
كما خص صديقه بصفة العروسوغطاها بالبرقع، وهي عادة ما تزال جارية لحد الآن في الزفاف أو في الوفاة.
ثمّ ألا يدل ملش(1) الشعر، وتمزيق الثياب على صورة مناحة نسائية؟
تدهشناموهبة الشاعر أكثر حينما أدخل عناصر حيوانية في المقطع أعلاه..
قال الشاعر:"وأخذ يزأر حوله كالأسد"
. كلمة :" حوله" ملغومة ،فدوران الأسد إنما هو دوران قلق وغضب وشراسة. وزادت الصورة حدّة حينما قال الشاعر :" وصار يروح ويجئ أمام الفراش وهو ينظر إليه". كذا العيون السنورية لا تفارق الهدف !سواء كانت هي متحركة أم كان الهدف متحركاً.
الحيوان الآخر الذي وظّفه شاعر الملحمة بمهارة فاذّة هو اللبوءة، وهي أكثر ضراوة واستماتة في الدفاع عن صغارها. فكيف إذا كانوا قد اختطفوا؟
ربما أراد الشاعر من وراء إدخال الحيوان في المقطع أعلاه، إدخال الخبال المتوحش الذي أصاب كلكامش.
أما جملة :"مزّق ثيابه الجميلة ورماها كأنها أشياء نجسة"، فيمكن مقابلتها بما كان للملابس من أهمية أولا حينما انتصر كلكامش على خمبابا فارتدى"حلة مزركشة وربطها بزنار..." وثانيا بعري أنكيدو وكيف ألبسته البغي "شمخة" نصف ثوبها.. (يمكن مقارنة أهمية الثياب في ملحمة كلكامش بالملابس في مسرحية مكبث).
بالمناسبة ، فإنّ العواطف المبثوثة في المقطع أعلاه وهي عواطف مشبعة بالأنوثة يعزز من القناعة بأن مؤلف الملحمة، إنما هو شاعرة.
لدموع كلكامش في المرحلة الثالثة، أهمية قصوى. إنها كالنور الكاشف. دموع ولا كالدموع. إنها
مصنوعة من هلع ولهاث وحيرة وجوارح ذائبة. بدا معها كلكامش شخصية أخرى ممزقة أقرب إلى الجنون المسنون، تختلف عما كانت عليه من قبل. أوّلاً عندما انحسر ثلثاه الإلهيان بكيفية ما، ظهر على السطح ثلثه البشري في أوهى ضعف، كحيوان محاصر. راح يتوسل إلى الآلهة كمنْ لا حول له. كمنْ على وشك غرق وما من قشة.
حتى الأسود التي كان يحملها كحملان وجداء باتت تفزعه!
مصير أنكيدو أمامه.وقد صار تراباً. لا مفرّ. كيف يتفادى ما سيؤول هو إليه من تراب؟ بين الذعر من الهلاك، والخوف من استحالته تراباً، نزلت عليه لأوّل مرة، فلسفة غريبة . ما سرّ الحياة، وماذا بعد الوفاة؟
سأل سيدوري الحكيمة صاحبة الحانة، أولاً كيف له أن يتفادى الموت، وسأل أوتو نفشتم كيف يخلد:
"ماذا عساي أن أفعل وإلى أين أيمّم شطري
تملّكني الموت
إنه يقيم في فراشي
ويربض حيثما أضع قدمي"
على أية حال، مما يثير العجب في هذه الملحمة – المسرحية، انها ذات تأليف غريب. تأليف حديث رغم قدمه. إنها أشبه بدائرة. تبدأ بنقطة وتدور وتدور ثم تعود إليها. الملحمة بهذا المعنى دائرة.
مثلاً ابتدأت براوية. تدور الحوادث وتتعقد فإذا بها تنتهي براوية. وبين الراويتين تكمن أكبر مأساة بشرية. انتقلت جينات هذا التأليف الدائري، إلى بعض مسرحات شيكسبير، وإلى مسرحيا ت هنريك إبسن. من ديدنهما أنهما يبذران في بداية المسرحية بذوراً تبدو صدافاً لا على التعيين أو أنها غير مقصودة، ثمّ يعودان إليها في نهاية المسرحية، وقد أصبحت أشجاراً .
كذاك تكتمل الدائرة.
مما يجمل ذكره أن هناك في الأقل سورتين مكّيتين في القرآن الكريم هما : التكوير وعمّ يتساءلون وفيهما أوسع دائرتين كونيتين.
ميزة ملحمة كلكامش الأخرى، هي تبادل الأدوار بين الشخصيات. أي ما من دور ثابت لأية شخصية.
مثلاً، كان أنكيدو في بداية الملحمة حيوانا متوحشاً عارياً، على هيئة إنسان منتصب، في حين كان كلكامش يرتدي:"حللاً قشيبة مربوطة بزنار، وجدائل شعره على كتفيه..." تدور الدوائر فإذا بكلكامش
"يمزّق ثيابه ويرميها على الأرض وكأنها أشياء نجسة". كذا وكأنه أخذ دور أنكيدو.
ثانياً حتى خمبابا الذي قتله كلكامش للتخلص من الشر، عاد بلبوس أفعى .أكلت العشبة فتخلد الشر.
ثالثاً رأينا البغي شمخة كيف علمت أنكيدو "فن المرأة" وكيف لقنته كما يلقن الأطفال مبادئ التحضّر، وها هي سيدوري تعلّم كلكامش سرّ الحياة، وتلقّنه كما يُلقّن الأطفال مبادئ العيش.
"إلى أين تسعى يا كلكامش
إنّ الحياة التي تبغي لا تجد
حينما خلقت الآلهة العظام البشر
قدرت الموت على البشرية
واستأثرت هي بالحياة...
اما أنت ياكلكامش
فليكنْ كرشك مليئاً على الدوام
وكنْ فرحاً مبتهجاً صباح مساء
وأقم الأفراح في كل يوم من أيامك
وارقصْ والعبْ مساء نهار
واجعلْ ثيابك نظيفة زاهية
واغسل رأسك واستحمّ
ودللِ الصغير الذي يمسك بيدك
وافرح الزوجة التي في حضنك
وهذا هو نصيب البشر"
هكذا سنت سيدوري ، وهي المعلمة الأولى في التأريخ ،أصغر مسلة إنسانية واهم شريعة بشريّة عن الحياة، وهما خلاصة الخلاصات، وفيهما بساطة جدول الضرب، الذي لا تقوم الرياضيات العليا. إلاّ عليه.
--------------------
اعتمدت كلية تقريبا على ترجمة المرحوم طه باقر اعترافا لما له من يد سابغة في هذا الباب.
(1) استعملت كلمة ملش وهي كلمة سريانية عامية بدل نتف لأنها متداولة بالعراق.