| 21 |
علي حسين
عشت حياتي وانا افتش عن اللوحة البيضاء التي يشرع الانسان على اساسها في البناء
كامو
في الأسطورة اليونانية القديمة، ترغم الآلهة سيزيف ابن الملك ايولوس على دفع صخرة ضخمة من سفح جبل باتجاه القمة، وما أن يصل بها الى قمة الجبل حتى تعود الى الأسفل، ويتبعها سيزيف ليدحرجها ثانية الى القمة، وهكذا الى ما لانهاية. تقول تفاصيل الأسطورة أن الألهة أذنت لسيزيف بالخروج من العالم السفلي الى سطح الأرض للانتقام من زوجته الخائنة، شرط أن يعود ثانية الى العالم السفلي، ولم يدر بخلد سيزيف إنه سيصبح رمزا للجهد البشري العبثي. فعندما وجد سيزيف نفسه على سطح الأرض ثانية، وعاش الحياة من جديد، قرر أن لايعود الى العالم السفلي الذي جاء منه.يكتب ألبير كامو في تقديمه لكتاب أسطورة سيزيف :"إن ما يهمني من سيزيف تحديدًا هو هذه الوقفة وتلك العودة، هو ذلك الوجه القريب من الصخور والمتألم ليصبح هو نفسه كالصخرة! فأتخيل ذلك الإنسان وهو يعاود النزول بخطى ثابتة ومثقلة نحو ذلك العذاب الذي لا نهاية له. لأن هذه الساعة التي تشبه المتنفَس، والتي تعود بالتأكيد مع عودة العذاب، هي ساعة الإدراك. لأن كلَّ لحظة من تلك اللحظات التي يغادر فيها القمم ويتجه هابطًا نحو عرين الآلهة، تجعله أسمى من مصيره، وأقوى من صخرته".
ما الهدف؟ هذا السؤال الذي يطرحه ألبير كامو في كتابه الشهير هذا، والذي نشره عام 1942 بعد رواية الغريب، وهو جزء من ثلاثية العبث الى جانب مسرحية كاليغولا ورواية الغريب.
كان ألبير كامو في التاسعة والعشرين من عمره عندما كتب هذه العبارة في أسطورة سيزيف :"من يشعر باللامعقول يرتبط به أبداً"، حيث نجد أن حياة هذا الكاتب المولود في السابع من تشرين الثاني عام 1913، كانت تجسيداً لهذه المقولة، فالطفل الذي قضى طفولته وشبابه فقيراً، مات والده في الحرب بعد عام من ولادته، وجد نفسه فجأة واحداً من المشاهير، كتبه تُباع بالملايين ويصبح أصغر فائز بجائزة نوبل للاداب – حصل عليها عام 1957 – نشأ في بيت جدته، لأن أمه كانت تعاني من مرض الإعاقة والصمم. ولكنها مع ذلك عملت منظفة في البيوت لكي تعيل طفليها، يكتب عن تلك الفترة في حياته :"أذكر طفلاً كان يقيم في حي فقير، كان هناك طابقان فقط والدرج عديم النور، ورغم مرور السنين فإنه حتى اليوم يستطيع تلمس طريقه الى البيت في الظلام، حتى جسده مشبع بذلك المنزل. ساقاه تتذكران بالضبط ارتفاع الدرجات ويده تتذكر فزعها الغريزي، الذي عجزت عن السيطرة عليه، من الدربزين، بسبب الصراصير". كان طموحه أن يصبح لاعباً مشهوراً لكرة القدم، في السابعة عشرة من عمره أصيب بمرض السل، وقال الاطباء لوالدته إنه لن يعيش طويلاً، ويبدو أن مجابهته الأولى للموت ونومه في أحد أسرّة المستشفى محاطاً بالعديد من المرضى، أيقظا لديه مبكراً الوعي بالمصير الإنساني، فترة النقاهة من المرض ساعدته كثيراً في تكوين شخصيته الثقافية، قرأ اندريه جيد وكيركيغارد وستندال ومارسيل بروست، ونجده يكتب عن رحلته مع المرض :"إن الإنسانية إذ تجهد في عملها اليومي، لم تجد أفضل من هذا الهروب البائس الى المرض، ليدركوا إنه ما تبقى من الروح. المرض بالنسبة الى الإنسان الفقير رحلة، والحياة في المستشفى حياة في قصر".
في التاسعة عشرة من عمره يتزوج من فتاة تنتمي لعائلة غنية لكنها كانت نزقة، في تلك الفترة بدا كتابة روايته الغريب، وانتهى من مسرحة إحدى روايات اندريه مالرو، حياته الزوجية انتهت بالطلاق.. بعدها يعيش حياة مرفهة بسبب عائدات كتبه، ويبدو إن اللامعقول لا يريد أن يفارقه لتنتهي حياته بمشهد عبثي، حيث قتل في حادث سيارة ليموت ميتة لامعقولة وهو الذي رأى إن كل ما في الوجود الإنساني"لامعقول"رغم أن إيمانه بقدرة الإنسان على المقاومة لم ينقطع حتى آخر يوم في حياته.
يؤكد كامو في أسطورة سيزيف إن الاصرار يجب أن يطل دائماً من عيوننا، رغم معرفتنا بعبثية الحياة، إنه سيزيف هو بطل المستحيل، بطولته تواضع مخلوط بالمستحيل، وليست عملاً خارقاً يعجز عنه الإنسان، إنه يعيش في فراغ دائم، ويحيا زمناً أعمق فيه، يحتقر الألهة ويكره الموت : "من بين خطايا سيزيف إنه قيد الموت بسلاسل"وسيزيف يعرف مصيره ويحمله فوق كتفيه، لكنه لايشكو ولا يستجدي العطف، إن المعنى الحقيقي لحياته هو في صراعه مع المستحيل :"المستحيل هو الحقيقة المباشرة التي تجعل الإنسان يقول : إن الحياة لامعنى لها".
يبدأ كتاب سيزيف بتوضيح معنى العبث من خلال تعقب سريع لحياتنا اليومية التي تمتلئ بأمثلة من العبث :"يتفق أن يتهاوى حولنا ديكور حياتنا اليومية في حطام. اللباس، الباص، أربع ساعات في المكتب أو المصنع، وجبة أكل، الباص، أربع ساعات من العمل، الاثنين، الثلاثاء، الاربعاء، الخميس، الجمعة، السبت، كلها في نفس الايقاع، والطريق يسهل السير في معظم الوقت. ولكن كلمة لماذا تظهر ذات يوم واذا كل شيء يبدو متعباً ملون بالدهشة".
في أسطورة سيزيف يحاول كامو أن ينفي عن نفسه صفة الفيلسوف، إذ يريد أن ينظر اليه باعتباره كاتب مقالات ولهذا هو ينبه القارئ في بداية الكتاب الى ذلك بقوله :"تعالج الصفحات التالية الحساسية العبثية التي يمكن العثور عليها بشكل متفرق، على امتداد القرن، وليس فلسفة العبث التي لم يعرفها عصرنا هذا، بمعنى الكلمة".
ونجد كامو في أسطورة سيزيف يرفض محاولات الخروج من عبث الحياة عن طريق الهروب أو الأنتحار، فالإنسان العبثي ينبغي عليه أن يظل بمنأى عن كل الحلول، ويرى كامو إن عدم جدوى الحياة لايمكنه أن يبرر الانتحار الذي يعتبره حماية سيئة للنفس من عبثية العالم..ولهذا فإن الوعي المتمرد الذي يتحدى الوضع الإنساني باستمرار هو وحده الذي يجعل الإنسان يكتشف حريته الحقيقية.
ينتقد جان بول سارتر مفهوم كامو للعبث وفي حواره معه يقول :"ما أسميّه عبثاً شيء مختلف جداً، إنه عدم لزوم الكائن الذي يوجد، دون أن يكون أصل وجوده، إنه كل ما يوجد في الكائن من معطيات غير قابلة للتبرير. والخلاصات التي استخلصها من هذا الطابع الذي يميز الكائن، تتطور على مستوى يختلف عن كامو، الذي هو مستوى المنطق الجاف والمتأمل". ونجد كامو يرد على ما كتبه سارتر بمقال طويل يؤكد فيه :"لو سلم المرء بأنه ما من شيء ذو معنى، فلا بد من الإنتهاء الى استحالة العالم. ولكن هل صحيح أن لامعنى هناك، إنني لم أر أبداً من الممكن البقاء على هذا الوضع. وعندما كتبت أسطورة سيزيف، كنت أفكر حينئذ في محاولتي عن التمرد التي كتبتها فيما بعد، والتي حاولت أن أعرض فيها، بعد وصف جوانب متفرقة من عاطفة المستحيل، لنواح مختلفة من الإنسان المتمرد".
*********
كل الكتب تتحدث، لكن الكتاب الجيد هو الذي يصغي أيضاً.
مارك هادون
طوال تاريخ الفلسفة تساءل الفلاسفة عن جوهر الحياة، وكان سارتر يعتقد أن لامعنى لطرح اسئلة عن معنى الحياة بشكل عام، وكما يقول سارتر فنحن أولئك الممثلون الذين دفع بهم الى خشبة المسرح، دون إعطائهم دوراً محدداً، دون نص يوضع في اليد، ودون ملقن يهمس لهم بما عليهم أن يفعلوا.أن علينا وحدنا أن نختار كيف نعيش حياتنا، وهذا الإنسان يصفه فيما بعد كولن ويلسون في كتابه"اللامنتمي"بأنه الانسان الذي يدرك ما تنهض عليه الحياة من أساس واهٍ، والذي يشعر أن الفوضى هي أعمق تجذراً من النظام :"إنني أرى نفسي في المرآة الطويلة الضيقة المعلقة في واجهة ذلك المحل، قادماً يلوح عليّ الشحوب والنعاس، كانت هذه السطور التي اقتبسها كولن ويلسون من رواية هنري بارابوس الشهيرة"الجحيم"، حيث نجد انفسنا إزاء رجل غامض يلجأ الى غرفة في فندق ويغلق بابها عليه، ويعيش لمهمة واحدة وهي مراقبة العالم الخارجي من ثقب الباب فهو الآن فقط :""يرى أكثر وأعمق مما يجب".
في العام 1946 ينشر جان بول سارتر كتابه"ما الأدب"، وفيه يأخذ الفيلسوف الوجودي على صديقه كامو تغليبه لعبثية الحياة على الحرية، ونراه يصر على أن يقدم الكاتب رسالة اخلاقية يضيء من خلالها عصره، ويؤثر في الآخرين عند الحاجة، إنه يريد أن يعود الادب والفن الى :"ما ينبغي له أن يكون أبداً، وظيفة ومهمة اجتماعية"، وهذا الموقف هو نتيجة من نتائج الالتزام، أي تأكيد المسؤولية الآلية التي لامفر منها والتي يريدها أن تكون واعية لتكون أشد فاعلية، مسؤولية الإنسان بصورة عامة والكاتب بصورة خاصة هي في تضامن البشر، ويعتقد سارتر إن من المستحيل على أي إنسان، ألا يبلي بالوقائع الراهنة، لأن هذه الوقائع لابد لها من أن تؤثر على حياته، ولهذا فإن سارتر يؤكد أن العيش في الواقع يقتضي المشاركة فيه :"إننا لانكتشف أنفسنا في عزلة ما، بل نكتشفها على الطريق، في المدينة، وسط الجمهور، شيئاً بين الأشياء، إنساناً بين الناس"، إن الانسان مشروع لإعطاء معنى للعالم، وحياته تتلخص باختياره الحر، والإنسان ليس حراً فحسب عند سارتر، وإنما هو أيضا الحرية وعن اختيار نوع الحرية هذه :"وهو إنما مسؤول عن هذا الاختيار.إنه ليس حراً أبداً في الاختيار، إنه ملتزم، وينبغي له أن يراهن، إن الامتناع هو أيضاً اختيار".
في العام 1970 قرر ريتشارد باخ، وهو كاتب اميركي أن يجرب حظه في كتابة رواية، كان قبلها قد كتب سيناريوهات للسينما لاقت الفشل والرفض، بعدها حاول أن يجرب حظه في كتابة القصة القصيرة، ولم يتمكن من اقناع الناشرين بأهمية ما يكتب، كان ريتشارد باخ المولود في شهر حزيران من عام 1936 لعائلة ميسورة،يرغب أن يعيش حياة خارج المألوف، فهو لايحب أجواء المال والصفقات التجارية وكان يقضي وقته في قراءة الروايات، شغف بأعمال تولستوي ووجد في الحرب والسلم عالماً فسيحاً من التضحية والآلام والموت والحب والطمأنينة.
يقال أن تولستوي عندما كتب الحرب والسلام قرأ مصادر بأكثر من سبع لغات الانكليزية والألمانية والفرنسية والايطالية والاسبانية واللاتينية، وقضى ما يقارب الست سنوات حتى انتهى من آخر صفحات الحرب والسلم وتكتب زوجته صوفيا في يومياتها :"لقد نهب تولستوي أرفف مكتبته لصالح الخلفية الاجتماعية والتاريخية للرواية، كان يعتمد على المذكرات وكتب التاريخ". تغير الحرب والسلم نظرة ريتشارد باخ الى الحياة وحين يقرأ هذه العبارة التي جاءت على لسان آندرو بولكونسكي :"الحب هو الحياة. كل شيء أفهمه، أفهمه فقط لأنني أحب الآخرين"، كانت هذه العبارة بمثابة المفتاح لتقديم رواية بعنوان"النورس جوناثان ليفنجستون"ولم يتوقع لها باخ أن هذه الرواية التي طبع منها ثلاثة آلاف على نفقته الخاصة، ستصبح بعد عام على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً
يحكي الكتاب قصة النورس الصغير جوناثان ليفينغستون الذي يعتقد أن معظم النوارس لاتهتم سوى بتعلم أبسط الحقائق المتعلقة بالطيران التي تمكنها من الحصول على قوتها اليومي ومن ثم العودة بأمان، لم يكن الطيران بالنسبة للنوارس هو المهم وإنما البحث عن الطعام أما بالنسبة للنورس جوناثان ليفينغستون فلم يكن الطعام هو الهدف في الحياة بل الطيران بمنتهى الحرية، كان يعشق الطيران وعندما تعاتبه والدته لانفراده بنفسه طوال الوقت ليجرب جناحيه في أساليب جديدة للطيران كان يجيبها :"أريد أن أعرف مدى الإمكانات التي أتمتع بها، هذا كل شيء، أريد أن أعرف". كانت رغبته في المعرفة تتفوق على رغبة الآخرين في البحث عن القوت اليومي، كان جوناثان قد صادف الطائر الأكثر حكمة"شيانغ"، الذي يعلمه كيفية التحرك الفوري إلى أي مكان آخر في الكون. ويقول له إن"السر في البهجة هو البدء بمعرفة إنك قد وصلت بالفعل.". ولكن يكتشف شيوخ النوارس أن جوناثان يعلم صغارهم فنون جديدة للطيران، فيقرروا طرده من القطيع وهم يقولون إن :"الهدف من الحياة هو أن نحاول العيش أطول فترة ممكنة، وأن نأكل، لا أن نحاول فهم الحياة، لقد خُلقت جناحا النورس بهذا الحجم فقط ويجب أن يطير قدر أستطاعته بجناحيه، ولو أن الخالق أراد لك أن تطير أكثر من ذلك لخلق لك جناحي نسر". عندما طُرد جوناثان من القطيع لم يكن يدرك إنه عندما رغب في أن يحلق بالنوارس الى آفاق الحرية، إنما كان يهدد تقاليد توارثتها النوارس على مر الزمن.
وعندما يجده معلمه حزيناً لأن الآخرين يرفضون فكرة الطيران الى الأعلى يطلب منه أن يكون صادقاً مع نفسه:"لديك الحرية في أن تكون نفسك، نفسك الحقيقية، هنا والآن، ولا شيء يمكن أن يقف في طريقك".
هذه هي الكلمات الأخيرة لمعلم جوناثان:"استمر في العمل على الحب". من خلال تعاليمه، يدرك جوناثان أن الروح لا يمكن أن تكون حرة حقاً دون القدرة على الصفح، وأن طريق التقدم يقود إليه - على الأقل - من خلال أن يصبح معلماً، ليس فقط من خلال العمل الجاد كطالب.
يعود جوناثان إلى قطيع النوارس ليشاركهم أفكاره الجدية، وهو جاهز هذه المرة للحرب الصعبة ضد القواعد الحالية لهذا المجتمع.
********
بدأ فيودور دستويفيسكي كتابة"الإخوة كارامازوف"في حزيران من عام 1878 وانتهى من فصولها الأخيرة في تشرين الأول عام 1880، بعدها بثلاثة أشهر توفي عن عمر بلغ ستين عاماً، وفي رسائله التي ترجمها الى العربية خيري الضامن يكتب الى تولستوي :"أنا أعمل جاهداً ليل نهار، لأنتهي من الإخوة كارامازوف، وإني أعيد في ذهني العمل الذي أرى فيه الكثير من نفسي،"
إن محور أحداث الإخوة كارامازوف هو حادثة مقتل الأب، وقد نسبها الكثير من النقاد الى حادثة جرت في حياة دستويفيسكي نفسه فأبوه مات مقتولاً وثمة حادثة شخصية أخرى كانت سبباً في أن يتفرغ دستويفيسكي لكتابة الإخوة كارامازوف هي وفاته ابنه سنة 1878 متأثراً بنوبة صرع وكان يبلغ من العمر ثلاث سنوات، فلجأ الأب – دستويفيسكي - الى أحد الأديرة وهناك تعرف على الأب أمبروسيوس، والذي نجده مجسداً في شخصية الأب زوسيما في الرواية.. وفي الرواية يقرر دستويفيسكي أن يطلق اسم ابنه المتوفي"أليكسي"، على أصغر الإخوة كارامازوف
غير أن موضوع قتل الأب لم يكن هو الوحيد الذي أثار اهتمام دستويفيسكي، فقد كانت تلك الفترة تعيش صراع بين الليبراليين وبين الذين يطالبون بالحفاظ على الهوية القومية الروسية، وكان دستويفيسكي واحداً منهم، وفي هذا الصراع كان قتل الأب يرمز الى استبعاد المطلق.
ولعل الإخوة كارامازوف تعد أكثر من رواية، إنها أشبه بوصية إنسانية يضعها دستويفيسكي للبشرية قبل أن يودع العالم، وفيها خلاصة لكل الأفكار التي كانت تدور آنذاك حول الانسان والدين والإيمان والله، والخير والشر، في تقديمه للرواية يكتب الناقد الروسي يوري سليزنيوف: "لقد أعطانا دوستويفسكي في الإخوة كارامازوف خلاصة أدبه وفنه. ففي هذه الرواية نجد التعارض الذي رأيناه في رواية المراهق بين الأب والابن، ونجد الصراع الذي رأيناه في الشياطين بين الإيمان والكفر، ونجد هيكل ما رأيناه في الأبله من شخوص ومن تنافس بين غريمين: وقد كان اسم إليوشا في مسودة الإخوة كارامازوف، الأبله... ونرى أن غروشنكا في الإخوة كارامازوف تذكّر بآناستازيا في الأبله. أما ديمتري فيكاد يكون راسكولنيكوف الجريمة والعقاب، وسمردياكوف هو فومافومتش قرية ستيباتتشيكوفو. والمشكلة المطروحة في حلم المفتش الكبير في الإخوة كارامازوف هي نفسها المطروحة في قصة الجارة التي كتبها دوستويفسكي في مطلع شبابه".
يبدو للبعض إن الإخوة كارامازوف مجرد رواية عن الجريمة التي يقترفها ولد في حق أبيه، ويستغرق الأمر فصولاً طويلة قبل أن يصل التحقيق الى القاتل الحقيقي، بعدما كان هذا التحقيق قد وجه شكوكه في نواح أخرى في اتجاه الابناء الآخرين للرجل القتيل. إلا أن دستويفيسكي بعد ان يكشف لنا القاتل الذي قام بالجريمة هو سمردياكوف ينبهنا الى أن الجريمة تم تنفيذها من خلال اللغة التي كان يحرض فيها الأبن الآخر إيفان ضد أبيه،. فإذا كان سمردياكوف قد نفذ فعل القتل، فإن القاتل الحقيقي هو إيفان، المفكر ذو العقل البارد، الذي إذ يسيطر على الوعي الباطني لأخيه سمردياكوف، يدفعه بالتدريج الى ارتكاب الجريمة. فإيفان المتأثر بأفكار نيتشه والذي يتحدث عن أفكار التقدم والسمو الفردي، كان متخلصاً من عبء القيم. عرف كيف يسيطر بافكاره على سمردياكوف، جاعلاً منه مجرد أداة تنفذ له الجريمة التي يريد. فهل ترانا هنا أمام جريمة عادية؟ هل نحن في مواجهة إيفان أمام شخص عادي؟ أم إننا في الحقيقة أمام حكاية البشرية كلها منذ فجر التاريخ؟ أمام اسئلة الخير والشر الخالدة؟ أمام لعبة الشيطان وأمام ضعف الإنسان البسيط أمام هذه اللعبة؟.
يكتب ألبير كامو ان"لرواية الاخوة كارامازوف صفة خاصة تميزها عن باقي أعمال دستويفيسكي، وهي مدى انشغال ابطالها بسؤال الوجود، ويبدو إن كل واحد منهم يحمل فكرة خاصة به عن هذا الموضوع".