فوزي كريم
هذا عصر الانترنيت دون منازع. وللإنترنيت مسراتُه البالغة وأوجاعُه البالغة أيضاً. وإذا كنا على دراية بالمسرات التي تثير الدهشة، فإن الأوجاع خفية بعض الشيء.
في العدد الأخير من مجلة Philosophy Now، ملف في استعادة أفلاطون، وما في مُنجزه من كشوفات لم يُطفئها الزمن، بالرغم من سوء الفهم الذي عكّر فاعليتها من قبل دارسيه. دراسةٌ استوقفتني بعنوان "سقراط، الذاكرة والانترنيت"، فيها نص حكاية سبق أن مرّ عليّ في "محاورة فايدروس"، ترجمة د. أميرة حلمي مطر، يرد على لسان سقراط، يتحاور فيه "تاموز" فرعون مصر مع "تحوت"، مبتكر الفنون والكتابة. فالأخير يبشر الملك بأنه سيهب الشعب فن الكتابة، التي ستنعم عليهم بالحكمة وتحسن من قوة ذاكرتهم. " أما الملك فقد أجاب: "يا تحوت ياسيد الفنون: هناك رجل قد أوتي القدرة على اختراع الفن، وهناك غيره الذي يحكم على ما جاء به هذا الفن من ضرر أو نفع لمن يستخدمونه، والآن وبوصفك مخترع الكتابة، أراك قد نسبت لها عكس نتائجها الصحيحة بدافع تحيزك لها. ذلك لأن هذا الاختراع سينتهي بمن سيتعلمونه إلى ضعف التذكر لأنهم سيتوقفون عن تمرين ذاكرتهم حين يعتمدون على المكتوب، وبفضل ما تأتيهم من انطباعات خارجية غريبة عن أنفسهم وليس بما بباطن أنفسهم." (ص110)
هذا النص السقراطي الذي جاء إلينا عبر 2400 سنة، ينطوي على معالجة لمشكلة يواجهها المجتمع الحديث. الملك يذكّر إلهَ الكتابة "تحوت" بأنه في ابتكار الكتابة سيجعل من المصريين أقل حكمة، لأنه سيعطيهم خزين ذاكرة مصنوعة خارج كيانهم، ستعطل ذاكرتهم الطبيعية في أمخاخهم، والتي ستخمد مع الأيام. وفي حال حداثتنا العلمية ما أيسر أن تتخيل أن "تحوت" لم يبتكر الكتابةَ، بل "الإنترنيت". أليس "الانترنيت" اليوم يشكل أكبر خزين للذاكرة الجماعية القائمة خارج الذاكرة البيولوجية في تاريخ الانسان؟ إن قدرة التخزين فيه ليست محدودة. وبالرغم من أن الكتاب يعزز الذاكرة بصورة من الصور، إلا أن اعتمادنا "الانترنيت" كأكبر خزين ذاكرة مصنوعة خارج الانسان، يقود بالضرورة وبصورة متزايدة، إلى فقدان الذاكرة البيولوجية.
الدراسة تشير إلى العديد من الفلاسفة المعنيين بتأثير "الانترنيت" على الذاكرة. يروي أحدهم، وهو "ديفيد كالمر": "اشتريت مؤخراً تلفوناً نقالاً. النقال سرعان ما استحوذ على الكثير من وظائف مخي الرئيسية. أصبح بديلاً لأجزاء من ذاكرتي، التي كانت معنية وناشطة في حفظ أرقام التلفونات والعناوين."
أرِك كاندل، الحائز على جائزة نوبل، يرى بأن مفتاح تشكيل الذاكرة كامن في عملية "الإنتباه". إن عملية تخزين الذكريات والحفاظ عليها عن طريق بناء تواصل بين الأفكار إنما يتطلب مستويات عالية من التركيز العقلي، الذي يمكن أن يتيسر بواسطة فاعلية تذكر وتفكير قوية. أي عبر النباهة.
في كتابه "بحثاً عن الذاكرة" (2006) يكتب كِندل بأن الذاكرة لكي تواصل فاعليتها فإن المعلومات الواردة يجب أن تُعالج بعمق ودقة. وهذا يُنجَز عن طريق الحصول على المعلومة ووصلها بشكل منهجي وذي معنى مع المعرفة التي حدث أن تعزز وجودها مسبقاً في الذاكرة. وبدون توجيه الانتباه إلى التفكير وإلى التجربة، فإن الخلايا العصبية المشاركة تفقد الحالة المستثارة لنشاطها الكهربي في لحظات، وبذا تتلاشى الذاكرة، تاركة أثراً صغيراً ربما في العقل. إن الكم الهائل من الرسائل الذي نتلقاها في كل مرة نستخدم فيها الانترنيت لا يكتفي بإرهاق ذاكرتنا بالحمولة الزائدة، بل يجعل من الصعب على فصوص مخنا الأمامية لأن توجه انتباهنا إلى مهمة واحدة بعينها.
" حتى وأنا أكتب في الكومبيوتر" يقول كِندل، "لا أستطيع أن أمنع نفسي عن التطلع إلى صفحة أخرى غير صفحتي، أو إلى الفيسبوك، أو الجيميل، أو صرف الانتباه إلى روابط أخرى في الموقع الذي اشتغل فيه. وخلال ضعف الذاكرة وتدهور القدرة على الانتباه، يتكيف مخنا بصورة تدريجية على النسيان، الأمر الذي يجعله غير كفؤ لعملية التذكر. وهنا نصبح محاصرين في دائرة مفزعة: لأن استخدامنا للإنترنيت يجعل من الصعوبة بمكان الحفاظ على المعلومة داخل ذاكرتنا البيولوجية، بل نجدنا مرغمين بصورة متزايدة على اعتماد "ذاكرة الانترنيت" الخارجية.