TOP

جريدة المدى > عام > في شبح نصفي.. الذاكرة والرمزيات السلاليّة الماضية

في شبح نصفي.. الذاكرة والرمزيات السلاليّة الماضية

نشر في: 23 إبريل, 2018: 06:34 م

 ناجح المعموري 

الرواية مشيدة من حكاية خاصة بعائلة آل فالح وملكيتها العقارية وتبدو في منتهى البساطة والمرونة ، لكنها تتشعب بهدوء وليونة ، وتتسع كثيراً ، لكن اتساعها موجز جداً ، فالمفاصل السردية للرواية كثيرة ، لكنها مركزة جداً ، حتى يفاجأ القارئ بانتهاء المفصل السردي لكن يجب علينا أن نقول عن الاجزاء الصغيرة المروية بأنها ذات قوة في الاحالة وفتح منافذ جديدة للسرد ، وينجح القاص محمد خضير سلطان بإضفاء الغرابة وسلطة اليومي ، هذا التضاد الذي يؤشر للماضي البعيد والآن المعاش . فالغرائبية جلجات الماضي ومروياته المقترنة بميراث الغياب الذي يوميء للأب الاكبر . وهذا _ أيضاً _ يسجل حضوراً لنمط السرديات المقترنة بشجرة سلالية ومثل هذه الظاهرة ليست غريبة عن السرد العراقي ومعروفة عربياً وعالمياً . والمثير في هذه الرواية قوة الحكمة الموروثة والحفاظ عليها من قبل الابناء الثلاثة ولعل أسعد أكثر تمثيلاً للأب البيولوجي الذي عاش كثيراً من التفاصيل الحياتية اليومية ، المألوفة للعوائل ذات الدخل البسيط والاعتياد على نمط يومي متكرر ، حتى يبدو كأنه منسوجاً ، ولذلك أكثر من سبب ، وأكثرها ديمومة في الحضور ، هي الثقافة التي عشبت وسط العائلة وظلت نامية وبوصفها هوية هي الميراث الحقيقي للغائب ، المتباهي به ، كذلك ، تميزها _ الأب _ عن غيره من مجايليه ، وهو مولع بالتدوين ، دلالة على معرفته للوقائع الكثيرة التي مرّت عليه وعاش تفاصيلها . ولم يتركها تمرّ سريعاً ، بل أمسك بها بهدوء وتركيز عال جداً . والأب الحاضر في الذاكرة المتداولة للتاريخ القريب والمعاش .
هي سرديات خاصة بالأب ، الذي لا يزاحمه أحد عليها ، مثلما صمت أولاده الثلاثة على طريقته الخاصة بادارة الملكية التي تركها للأبناء والبنات ، ولا أحد نستلم مردوداً كافياً يستعين به على قساوة الزمان . الوارث مختلف كلياً ، يقرأ ويدوّن كل ما يلفت انتباه من بين وقائع وأحداث ، منها مؤشر جوهري على حياة الجماعات المتشاركة والصامتة ، ومدونات أخرى ذات جوهر سياسي ، اختصرت شخصية الوارث وثقافته ، معرفته وسعة تفكيره ، وإدراكه للخطورة التي كنت في بعض التدوينات ، لحيويتها بما تنطوي عليه من حقائق لا تدحض ولا يمكن لأحد تفكيكها أو خلخلة إحداث ودمويات بمعنى ظلت الدفاتر السبعة بما تنطوي عليه من رمزية متوارثة عبر تاريخ ميثولوجي ، صاغ الروح الدينية للجماعة . وانتباهة القاص محمد خضير الى سلطان للرموز المرتبطة بالعقائد وتميزها بطقوس وشعائرها ليست خفية ، إلا أنه _ وهذا أمر يتميز به _ أكثر عمقاً في التقاطاته للأساطير التي تتضح أحيانا وكأنها شبكة منسوجة بعناية سردية ، ليجعل منها خاصية له في التعامل مع الميثي تعاملاً هادئاً وغير صادم . والمتلقي غير العارف بسيرة الميثولوجيا ، تمر عليه تفاصيل الميثي بسبب هدوئها ، ومرونة تواجدها في مراكز السرد أو الاتكاء على حوافها وهوامشها . وأنا اعتقد بسبب تخصصي بالنقد الأسطوري أجد بمثل هذه الخاصية نوعاً جديداً في السرد العراقي بالاضافة لهدوئه والسعي للتكتم على البذرة الميثية وليست الوحدة . وهذا ما برز ملمح كشفت عنه إمكانات القاص المبدع محمد خضير سلطان وهو يكتب سرديته الجديدة ، لأنه لا يريد التعامل مع المتلقي عبر كشوفات صارخة وبارزة وانما يضعه أمام اختبار حتى يحقق نوعاً من التوازن بين منتج النص وفاحصه . لأن القاص دائماً ما يذهب هذا المسار من خلال مفاصل هذه الرواية .
ولم يكتف بذلك الملمح الفني بل وظّف اللغة واستنهض الطاقة الكامنة فيها ، ليجعلها مبرقة بالشعر أحيانا وبالشعرية دائماً ، لكني لابد من ملاحظة أن صعود الشعر في بعض المفاصل لا يفسد السرد ، بل يخضعه لما يشبه المتراكم الفاعل في الروي . ويفاجئ القاص متلقيه بالشعرية ولابد من فتح منفذ ولو قليل لمعرفة ما تعنيه الملفوظة فالحارس مثلاً ، مفردة وضخمة جداً ، معلومة ، لا تحتاج جهداً لفهم ما تشير اليه ، لكثرة تداولها وشيوعها ، لكنها في أحد مفاصل هذه الرواية " حارس الملكُ " لا يعني دلالياً بأنه الحامي للملك ، بل هو الروح المعاينة والمراقبة التي أوكلت له سحرياً ومادياً وضع الملكيات العقارية تحت الشواف .
الملكُ وجود مادي ومكاني ارتبط بقوة ومكاني ارتبط بقوة مع آل فالح ( القريب جداً من الشارع الهندي القديم ، ذو الباحة الواسعة المترعة بضوء النهار والتي تحيط بها غرف أربع ذات جدران سميكة عالية ، كثيرة الترميم ، في الأبواب والنوافذ بسبب القدم ، مبنية بالآجر المفخور الكامد والمحشوة بالطين والحجر والمكسوة بالسمنت ، لكنه في شرود الحكايات وسط سراب الرؤيا وشحوب الذاكرة ..... بيت ركناه مال موتى متحرك من قبل الاحياء ، وأملاك لم تسجل لدى الوارثين وذاكرة مروية مشاعة لم تدوّن مثل حكايات شفوية عائدة لقوها من قوافل منسية . عميد البيت الكبير زيدان فالح يجلس في غرفته أمام طاولته الواطئة كأنه في مقدمة القافلة السائرة نحو النجم الشاحب البعيد ...)
البيت طالع من بطن التاريخ واعماقه السحيقة ويشبه تماماً ما يرسمه كتب التدوينات القديمة ، لكنه _ البيت _ باق بصفته وحضوره الدال على آل فالح والوجاهة الراسخة والتي توميء للحظة الإشارة للحضور الآني ، لأنه لم يكن غير بيت آل فالح ، بل عميدهم ، إنه زيدان الفالح الكبير وهو موجود في مكانه الشخصي والخاص جداً وأمامه طاولة واطئة يتقدم مع قافلة متجه نحو وهم وحلم كالشبح ، لأنه لا يدري على الرغم من عميدته للعائلة كلها بأنه لا يرى في البعيد الا النجم الشاحب .
التركيز واضح والعناية بارزة برسم الاطار الكلي لبيت آل فالح ، جماعة رجالية ونسوية ، تناسلت عبر الزمن وصارت عشيرة استحقت الانتساب للجد الاكبر وفازت بـ ( آل ) والطاقة في المعاينة والرسم والتوصيف غير غائبة عن الذي يفحص جيداً ، بعد ما يقرأ ، والقاص حر ، يمتلك فضاءه التدويني ليقول ما يريد ويسجل ما يحلو له من كلمات ، تضفي العتاقة والقدم ، وتجعل من البيت كياناً مادياً مثيراً للهيبة والسحرية لذا كان القاص بارعاً في اختياره لما يريد ان يضيفه على هذا البيت بيت الاجداد الذي عاش تفاصيل مرويات ، لها عميق الذاكرة ( بيت آل فالح مرة كخيمة في مهب الريح المزمجرة ، سائلاً مثل قبضة رمل ... واخرى كحزمات كثيفة شديدة التماسك من القصب تنهد في الماء .... يطفو مع الطمي او يغيب عن السديم والخلق . يعود من حجر ) .
تقول حكاية آل فالح ومدونة محمد خضير سلطان بأن الملُك ما زالت عائديته للسلالة ، لأنه غير مسجل للابناء وهنا بؤرة لها قصدية للانحراف من الفضاء الواقعي / الموضوعي بأتجاه ما هو رمزي ، ويمنح هذا المكان قوة وأبّهة وتواجداً ، له حضور رمزي حتى تتسع دلالته ويحوز صفة الملكية العامة . وهنا ينفتح الرمز نحو كل الجهات ويظل الكامن في مكمنه ولا يصرح به القاص ، لكنه ينفتح قليلاً قليلاً ويحوز المعنى العام والكلي / الشامل ولكن لم تغادره سلالة آل فالح .
( شيء ما أبعد من نظرة مفتوحة ، غامضة لإدارة تركات الأب غير المسجلة لابنائه منذ ما يقرب من عشرين عاماً على موته ، والمحفوظة وثائقها في خزانة نحاسية مقفلة ، والمخبأة بأكثر من مظروف قديم وجديد وبأكثر من صندوق من جريد وخشب ، ببطانيات قطيفة حائلة الألوان ) .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

تخاطر من ماء وقصَب

موسيقى الاحد: كونشرتو البيانو الثالث لبيتهوفن

التقاليد السردية بين الأصالة والأقلمة

مقالات ذات صلة

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد
عام

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

علاء المفرجي يرى الكثير من القراء والنقاد انه كان للرواية ظهور واضح في المشهد الأدبي العراقي خلال العقود الثلاث الأخيرة، فهل استطاعت الرواية أن تزيح الشعر من عليائه؟ خاصة والكثير من الشعراء دخلوا مجال...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram