TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: أوهام الهوية

قناديل: أوهام الهوية

نشر في: 28 إبريل, 2018: 06:10 م

 لطفية الدليمي

تبدو القصدية واضحة في إختيار عنوانٍ لأحد مُصنّفات الكاتب الراحل ( داريوش شايغان ) الذي يعُدُّ أكثر الكُتّاب الشرق - أوسطيين تناولاً وتشريحاً لأخدوعة الهوية ( الذاتية والمجتمعية ) وبكيفية شُجاعة تنمّ عن جسارة فكرية يصعب توفّرها في مثل هذه البيئات الثقافية ؛ غير أنني برغم ذلك لستُ أعتزم جعل هذه المقالة تقريضاً أو تعقيباً على عمل ( شايغان ) لأنّ الكثير كُتِب فيه ، وكلّ ماأريده هو الإنطلاق من موضوعة ( شايغان ) للتعليق على مفهوم ( الهوية ) برؤية ثقافية خالصة بعيداً عن نسق تحديث الرؤية الدينية والحضارية - ذلك النسق الذي جعله ( شايغان ) حجر الزاوية في أعماله العديدة .
يعود أصل مفهوم الهوية إلى عصر التنوير الأوروبي وبواكير إنطلاق الثورة العلمية ؛ إذ كان الناس قبل ذلك العصر محض حشود بشرية مكتفية بإدامة متطلّبات وجودها البيولوجي اليومي في ظلّ سيادة قناعة بأنّ الحياة الأخروية هي أجدى وأبقى ، ثمّ جاء عصر التنوير فحطّم هذه القناعات الراسخة وأعلى شأن العقلانية والرؤية العلمية وكل مايعزز التمكين العقلي والمفاهيمي للفرد والتأكيد على العمل المنظّم والمنضبط والمجتهد والذي يقود المرء إلى فرض بصمته الشخصية المميزة والمتفرّدة في هذه الحياة من جهة ، وإلى تعزيز تمكينه الإقتصادي - بالمقارنة مع الآخرين - من جهة أخرى ، ثمّ توالت الثورات السياسيّة والعلمية والتقنية التي عملت على تعزيز هذه الثنائية المتلازمة : ثنائية الهوية الذاتية والتمكين الإقتصادي والمجتمعي .
حتى منتصف القرن التاسع عشر كان تعزيز الشعور بالهوية الذاتية عاملاً إيجابياً مطلوباً ترسيخه باعتباره دافعاً للنشاط الفردي المنتج ، وكذلك لكونه ترياقاً مضاداً للغيبيات اللاهوتية التي تقايضُ هوية الفرد المميزة بهوية جمعية ثيولوجية أخروية لاملامح لها سوى التبشير بوعد خلاصي مؤجّل ، ثمّ حصل تطوّر مفصليّ في منتصف القرن التاسع عشر عندما إنبثق مفهوم ( الأمة - الدولة ) الذي شكّل الإطار النسقيّ لتأسيس الدولة الحديثة ، وقد تطلّب هذا المفهوم المستحدث شكلاً من المادة اللاحمة القادرة على صهر الهويات الذاتية الفرعية في أتون نسق سياسي - فكري جديد هو الدولة ؛ فشهدنا مفهوماً ميتافيزيقياً مثل ( روح العصر ZeitGeist ) - على سبيل المثال - لجأ إليه بسمارك لتحقيق الإتحاد الألماني ، وبالمثل كان ثمّة حاجة مسيسة لكلّ الدول في اللجوء إلى إصطناع مفاهيم شبيهة بمفهوم ( روح العصر ) ، ويمكن بمساعدة هذه المقاربة تفهّم الأسباب التي قادت لنشأة وشيوع كثير من المفاهيم في بيئتنا العربية ، ومن بينها مفهوم ( القومية العربية ) الذي أريد له أن يكون هوية جمعية قسرية تتصادى مع مفهوم ( روح العصر ) الألماني النشأة .
قادت مفاعيل الحرب الباردة وماتلاها من تداعيات خطيرة على المستويين الفردي والجمعي إلى جملةٍ من الرؤى الجديدة للوضع البشري ، وكان في مقدّمة تلك الرؤى أنّ إعتلالاً خطيراً أصاب مفهوم الهوية ( الذاتية والجمعية ) وجعله يتضخّم ويبلغ مستويات سرطانية ، وبات لازماً مغادرة هذا المفهوم والتعويض عنه بمفهوم براغماتيّ تتوازن فيه الحاجات الفردية مع الحاجات البشرية الجمعية في سياق نسق تشاركي يتجاوز محدوديات كلّ من الفرد والدولة .
إنّ العصر القادم هو عصر اللاهوية - بالتأكيد - باستثناء عناصر الهوية المعزّزة للمشتركات الإنسانية ، وسيكون في عداد العماء الثقافي تغليب الآيديولوجيا قسرياً على واقعٍ كارثيّ بدلاً من مواجهته بوسائل براغماتية هادئة تغلّب بقاء البشرية واستمراريتها على الجري وراء سراب الرثاثة الآيديولوجية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

عمليات بغداد تغلق 208 كور صهر و118 معمل طابوق وإسفلت

أسعار الصرف اليوم: 143 ألف دينار لكل 100 دولار

ترامب: أوقفتُ 8 حروب وأعدتُ "السلام" للشرق الأوسط

الأنواء الجوية: انتهاء حالة عدم الاستقرار وطقس صحو مع ارتفاع طفيف بالحرارة

حصار فنزويلا ينعش النفط… برنت وغرب تكساس يقفزان في آسيا

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram