ستار كاووش
سألني أحد الأصدقاء عن الذائقة والخبرة الجمالية والحوافز التي علينا إمتلاكها، كي نتفاعل مع الأعمال الفنية، ولماذا ننسجم مع بعض الأعمال دون غيرها؟ كيف نحدد ذلك، وماهي الدوافع التي تقودنا الى هذا الطريق؟ وبالنسبة لي شخصياً، فأنا أحفز ذائقتي دائماً بزيارة المتاحف أسبوعياً تقريباً، باحثاً عن الأعمال التي أحبها وتثير بداخلي غبطة من نوع خاص. لا أهتم كثيراً لبعد المكان أو قربه، وقد نَظَّمتُ وقتي بشكل جيد للقيام بذلك. وبطبيعة الحال، تغمرني وانا أبحث عن اللقى على جدران المتاحف بعض اللحظات الخاصة التي أجد فيها نفسي وجهاً لوجه أمام بعض الكنوز التي أحس أمامها بفتنة من نوع خاص، وأشعر أن سحراً ينبعث من قماشة الرسم، شيء أكبر من كونها نسيج من القماش وُزِّعَتْ فوقه مجموعة من الألوان، شيء يجعلني أُحَرِّكَ يدي لا أرادياً على وجهي وأقرب نفسي أكثر لأرى وأتحسس التفاصيل. وغالباً ما أحسُّ أن هناك شيئاً مشتركاً يربطني بهذا العمل أو ذاك، وعليَّ إكتشافه، شيء يجعلني أتوقف وأنبهر، ليضاء شيء بداخلي ويكتمل إستعدادي الجمالي لِتـَقَبُّلَ ذلك. فعلبة الكبريت لا تساوي شيئاً بدون إحتكاكها بسطح ما كي تشتعل، كذلك يحتاج العمل الفني الى الإحتكاك بذائقتنا وأرواحنا ليضيء زوايانا المعتمة.
هناك نوع من العناء الجميل الذي علينا أن نبذله كي نتقرب أكثر من الأعمال الفنية، فمجرد حبك لإمرأة جميلة لا يصنع منك عاشقاً، بل عليك أن تمارس كل حيلك الجمالية وتضيء كل مصابيح روحك كي تستحوذ على قلبها، وهذا ما يحدث مع اللوحات الجميلة أيضاً!
كذلك علينا أن نشعر بالعرفان أمام كل القطع الفنية التي تركها لنا آباؤنا الفنانون، رغم قسوة الظروف التي أحاطت بهم وصعوبة الطرق التي سلكوها. فكل فنان عظيم هو ساحر، بل هو إله صغير يقضي في مرسمه ساعات طويلة، ليقدم لنا في النهاية مخلوقاته التي تعيش وتبقى أطول من الأنسان نفسه.
لقد مات كل مشعلي الحرب العالمية الثانية، في حين بقت غورنيكا بيكاسو حيَّة ومؤثرة وتنبض بالحياة. ذهبت مشاكل المكسيك بعيداً ونساها الناس، لكن جداريات ريفيرا العظيمة مازالت واقفة، بسبب الهيبة والجمال الذي ينبعث من قطعها الموزائيكية الملونة. تَغَيَّرَت القرى الهولندية كثيراً وأصبحت مدن عصرية، بينما رقصات الفلاحين في لوحات برويغل بقت خالدة، وظلَّ وقع أقدامهم يتناهى لأسماعنا وهم يشبكون أذرعهم مع أذرع الفلاحات الجميلات في حفلات القرية. ومازال الكابتن كوك يلوح بيده وهو يتفقد الدورية في لوحة الحراسة الليلية لريمبرانت رغم مرور اربعمائة سنة على رسم هذه التحفة الخالدة، ووسط كل ذلك هل يمكنا ان ننسى كلب خوان ميرو الذي بقي حتى هذه اللحظة، ينبح نحو القمر في لوحته الجميلة؟ أو أن نَمُرُّ مرور الكرام في أروقة المتاحف دون أن نسمع النغمات الأخاذة لعازفي الكمانات الطائرين الذين غطاهم شاغال بأزرق الكوبالت في أعالي لوحاته؟
هذه الاعمال وغيرها الكثير، بقيت خالدة ليس فقط بسبب تقنياتها المذهلة، بل ايضاً بسبب ماتركته فينا من سحر وتـأثير، وما تملكه من مقومات الخلود والعظمة، وبالتأكيد هناك سبب جوهري يضاف الى كل ذلك، وهو إستعدادنا الجمالي الذي يخلق نوعاً من التعاطف مع هذه الاعمال.
الفن هو أن تجلب القمر من السماء لتضعه بين أيدي الناس، هو أن تُحيلَ أنابيب الأصباغ الى لغة تتكلم بها على سطح القماشة، لغة يفهمها الكثيرون وتحرك مشاعرهم. إن إستطعت ياصديقي أن تحيل الجدار الى شارع والنافذة الى قرية مليئة بالعشاق، فـأنت قد خطوت خطواتك الصحيحة وأخذت مساحتك التي تستحقها في عالم الفن.