طالب عبد العزيز
(1-3)
ما كنت لأقصدها، في الرحلة الطويلة المتعبة، لولا جملة صديقي، الشاعر جمال مصطفى، المقيم في الدنمرك الآن، والذي طالت اقامته في طهران، قبل أن يُقبل لاجئاً ومن ثم مواطناً هناك، فهو يقول بما معناه :" لولا تبريز لكانت أصفهان نصف الدنيا" هي أصفهان إذن، الطريق التي تمرُّ بالأهواز عبر بادية عبادان والمحمرة وأم الحجار وأم الغزلان والقصبات الأخر، وتترك الفلاحية والقرى التي كانت إيالة الشيخ خزعل الكعبي خلفها. الريح تبرد والشمس تذبل، كلما صعدنا مرتفعين، وما كان طيناً وقصباً من الارض أمسى رملا وأثلاً، لكننا لم نبلغ البطائح بعد، باعة التمر المُعْسّل الى جوار باعة السمك، أعلم، بطبيعتي الخصيبية أنَّ التمر لا يتأثر بالروائح، وكل ما في البرية من حجر وشجر وصمت يذكرنا بالطريق الى أندمشك وديزفول، فالثكنة التي على يمين الطريق ما زالت تدلُّ على هزائم وانتصارات، كانت السنوات قد دفنتها بترابها، هنا، حيث لا يتخذ السائحون مقيلا بين العربات، يمرُّ قطارٌ وتبتعد غيمة وتتثاءب مسافات.
خارجون من الأهواز، صاعدون الى أصفهان، نحن الثلاثة، خصيبيين، من البصرة، عبد الوهاب وصالح وأنا. في البدء، كانت شيراز وجهتنا، فارتضينا بأصفهان وجهةً جديدة، وبالجبال مرقاةً اليها. تبضع السائق لليله الطويل ماءً وأغنيات فارسية وقال: إنَّ الطريق إلى هناك تبدأ بكأس من النبيذ، كرعها فكرعنا معه بعضاً منها، فكان المغربُ موعدنا. تقول يافطة: إنَّ رامهرمز ليست رامشهر، ولا أعلمها إلا صادقة، غير ان الهضبة خلف سكة الحديد تدلنا على مبنى من الحجر، سنسكنه ساعة من النهار. قدّم الرجل لنا البيض مقلياً بالزيت والبصل مقطّعاً، ومضى، يُعدُّ الشاي، كان الخبزُ آذريّاً، وكانت الاقداح من الصوّان، نقوشٌ لا حدَّ لها تزيّن المقابض والسكاكين.
على اليمين حقول الشعير خضراء، تصلحُ لمن يطلبها نزهة، لكنَّ حقول القمح تذهّبها الشمسُ على الشمال، سألت السائق أغنية عن الحصاد، فحرك المؤشر ساخراً، ولا أذكر انني طلبت منه التوقف عند السنديانة، التي آنستها العام الماضي. كان طائرٌ من خشب، أبنوس، يزيّن مدخل المسجد، لا، لم يكن هلالاً، كان طائراً حسب، أحسنتِ الريح صنعاً اليه، فهي تستوقفه للعابرين في النهار، الذين لم يجدوا الوقت كافياً لإتمام صلاتهم. ومن محطة الوقود، التي نصفها مطعم، ابتدأ الجبل، لكنَّ الطريق بمسار واحد والشجرَ شحيحٌ على الجانبين، وسوى من باعة البطيخ لم نصادف أحداً. العرب الفرس أو اللّرُّ العرب، سكتوا عن مفاخرة المعاني، فلا جواري ولا غِلمان في البرية هذه، والضريح الذي مازالت رايته خفاقةً، لا يعني أحداً، مرَّ العربُ الإماميون، ومرًّ الأحناف الأحوازيون فما أوقفتهم منارته، هم يسلّمون على الشمس التي ستغرب عما قليل.
نحن لم نبلغ سلسلة الجبال التي هبط عليها الغيم بعد، هي تذهب بالصخر والعرفج الى خانقين ومندلي وتعبر حمرين الى الشام، هذه الارض بلا خطوط تبدو، لكنها كانت موحشة ذات يوم، يقول بطن من تميم إن قوافل الميديين والبارسيين والاخمينيين والصفويين كانت تعبرها الى السهل البابلي العريض.
لا اسمي السائق بائع خمر، ولا مؤجر السكن قوّاداً، فهم عوان بين هذا وذلك، أنا لا أبحث في المعاني عن معنى، فما في الوقت متسع لظلال الأسماء والمسميات. تفتقُ المركبات في الجبل جادة الى أصفهان وامشي. وتكتب السناجب على الصخر أغنية وأنام. يطبق الجبل على حجارة السور من جهة البحيرة، لكنه ينفتح كلما كانت رائحة الشواء قريبة، تتخطانا المركبات الكبيرة ساعة ننشغل، متأملين ما يتدحرج من الطير في الفضاء، وعلى بعد شجرتين من دكانة بائعة الفطير بالخضار، أوقدت صاحبته في مدخله ناراً، فيما ظل المطر يقرض المسافة بين المقاعد والطاولات، هناك، اخذنا قيلولة ما بعد الشاي، فالأسفلت طويل الى أصفهان. ليل لا نعلمه يعبر الينا من خلف الزجاج، وما هو بليل، هو انطفاءة رطبة في الشمس، ابتلعها قطيعُ ماعز في البعيد، وفي منحدر الصخر، قبل أن تلامس أقدامنا تراب (بوجان) آوانا مطعم يقدّم صاحبه اللحم مسيّخاً على النار، جلسنا متقابلين، على السرير الحديد، وكانت الطريق الى القرى رطبةً بمصابيح المركبات.