طالب عبد العزيز
في مقهىً يأمّه السائحون ساعة الظهيرة، بأصفهان، طلبت القهوة التركية، كانت النادلة تتلفعُ بإيشارب ابيض يقرِّبُ وجهَها من النور، راح ينبعثُ من مصباح الطاولة، تقول بأنها تحبُّ التين طازجاً، وأنَّ حبيباً لها، يعشق النبيذ، يصنعه والده في (لاواسان) التي غرس الجبلُ غابة كرومها، كانت تشير الى جهة في الشرق نائية، فيضوع عطر وتضطرب جهة في صدرها، لا تجد في القميص الأزرق كامل حريتها. السائحة الألمانية تفتح باباً هو الأول في المقهى، هي تقرأ في كتاب نيتشه، لعله (هكذا تكلم زرادشت) فيدخل غوته، وتهبُّ نسائمُ الراين. كنتُ أحدّثها بما في لساني من لفظ الانكليز عن شمس البصرة المحرقة، التي تبعد عن المقهى قروناً.
في الباحة التي تفصل دكانة بائع الحلوى عن المقهى، أوقفتني تحدْثني عن ميدان الولاة الصفويين، تقول: كان صوت المؤذن يتصادى في جنباته، وعند خوخاته المئة. فتشير الى بلاطة من الرخام، تتوسط المسجد الكبير، أنعم النظر في قراطيس لها، هي صور ميدان الحرب، الذي استحال منتجعاً. أقول:(ميدان إمامي) فتصحح: (ميدان نقش جيهان) تقول: هذا، الذي يركض الصِّبيةُ فيه، صاعدين ابلغ نقطة في النهار، نازلين بحيرته التي تمورُ دِعةً وزرقة. أنا أكلت الفالوذج بطعم التوت المجفف، من بائعة عند مرقاته الثانية. ليس المصلى ما يريده أهل أصفهان في أويقات تنزههم، ولا الحدائق، كان الرواق الطويل ما يقصدون.
في الليل يصير المبنى سوقاً، تميس النساء في أواوينه العريضات وعلى عشبه يحظى المحبّون بما في قلوبهم. وفي (بارك صوفيه) كما هو بلفظ أهل أصفهان، ظلَّ الماءُ يتنزل من الجبل مضاءً بشمس الواحدة بعد الظهر ورائحة الورد والنعناع، وحتى النهاية السعيدة للأسبوع ظل يتدفق بلورياً من فروج الصخر، ليصل مجالس المتنزهين. كان الولد الأصفهاني قد بلغ بِنَا نزهة الليل وأخَّر فينا نزهة النهار، آيته، أن لا أحد يبيع النبيذ يوم الجمعة، فكنا الأصبر على ذلك، وكانت المصاطب خالية، وها، لاحت نُذُرُ البرد في الستائر وعلى الأجاص. ولأننا بلا أسئلة كبيرة فقد أطل من شرفة في المقهى قمرٌ أصفهاني حزين. قمر لا يصله الناس إلا من ثلمة على الرصيف، ولكي تبلغ أنوثتها تأتي إمرأة آخر الليل، تدخل بيتاً مما ستهدمه البلدية بعد عامين، هناك، حيث ينتظرها رجل أخذ عن الصنوبر درساً في الانتظار.
كانت الطريق الى(كاشان) بساعتين من أصفهان، وكانت الشمس قد أحسنَت رفقتنا، فكنا كلما اجتزنا غابة ابتكرت الارض غابة أخرى، ومن منجرد اهوج في الصخر تخرج منه المركبات الى الاوسترادو استوى جبلٌ وحيدٌ، بقمة من الثلج، يطلُّ، أوقفنا بائع المظلات بين شجرتين، هُن الوحيدات قرب عمود الضوء، ومثلما تنفلت من يدِ الافق غيمة تركت الصبيّةُ شعرَها باذخا على مقعد الباص، ومضت الى النوم. كان قميصها الذي انتزع من شجر الغابة أخضرَ، فستقياً، أقول لصاحبي: " إن المسافة بين مظلة شرطي المرور ومركبة بائع الفاكهة بوحل كثير. يقول إن المطر يتوعدنا بالطول، وكان السائق يتفادى الاحراش في أويقات ما بعد الظهيرة.
يقول متن في التاريخ:" إن الشاه رضا بهلوي أسقط بوشاية من زوجته حكم أحمد مرزا القاجاري، في كاشان، التي أمضينا النهار بأزقتها، نقتفي مغازل الحرير والسجاد وندوّن أسماء معاصر الورد، ولأنَّنا لن ندخل المستحم قبل توقفنا في السوق الكبير، لذا، كانت الريح التي ينشئها مطرٌ بعيدٌ وتهب باردةً، قد أعادتنا الى الشتاء، نحن الذين لم نأخذ حيطتنا في البصرة وعبادان. ومن شارع طويل، مورق ومزهر قادنا السائق الى مستحم (أكبر أمير) لعله آخر زعيم قاجاري، كان قتلَ بين الماء والحجر. كان باعة ماء الورد عند المدخل قد أكملوا مفاجأتنا. تذكرت ناصر خِسرو في (سفر نامته) فقد أخطأت أعدُّ دكاكين باعة الورد والنيلوفر التي على جانبي الطريق، والتي لا تنتهي بالمستحم.
لم أحفظ أسماء قدور النحاس الكبيرة، التي يَعجنُ أصحابُها الورد الجوري والمحمّديَّ الأحمرَ والسلطاني الأصفرَ مع ما تيسر من النعناع والاهليلج، فقد كانت الانابيق والزجاجيات بألوانها تقف في تحيتنا عند سلال الورد، التي انتظمت طائعة مثل سناجب محنطة، تحنو على مئات الأباريق الصغيرة. يقول صاحبي:" إن القوارير مشغولة بالنقوش القاجارية، فأقول وبرسوم السلاطين، الذين لم يقتلوا في المستحم مع (أمير أكبر) ولأن الحور ما زال شاهقاً، يرتدي الفتية القاجاريون الانيق من ثيابهم، يشحذون أخيلتهم مما تخلف في ضواحي المدينة من نساء وأنبذة وينابيع. ويتطيبون بماء الورد ممهوراً بالعطر في الجرار.