TOP

جريدة المدى > عام > الشاعر لوران غاسبار .. رياح الطين تغطينا

الشاعر لوران غاسبار .. رياح الطين تغطينا

نشر في: 21 مايو, 2018: 06:13 م

 ناجح المعموري

" أوراق وملاحظات " كتاب الشاعر الفرنسي لوران غاسبار والذي ترجمه حسونة المصباحي ضمن كتابه " متاهات " الصادر عن دار الشؤون الثقافية عام 1990 ، استعاد فيه صور الأمكنة التي عاش فيها طويلاً . الشرق الذي تكشف له بشكل مدهش ، عين الشاعر ليست كعين الآخر ، عين تنزل في عمق الأشياء المرئية ، تتعرف على خفايا دفينة في الذي يتحرك في المحيط . بمعنى أنها تكتشف الروح التي تمنح حياة للمشهد . كتب عن الأماكن التي تقاسمت جزءاً من عمره كما قال حسونه المصباحي ، هي " دقة ومكرونة ، حلب والقدس ، أثينا ، وقنية ، اسماء تنهض من ذاكرة وفية ، ومعها تنهض أحاسيس ورغبات مقترنة بفصول وبحار وأزمنة " كتب لوران غاسبار عن القدس : ليالي الصيف في القدس ، النظرة كما لو أنها قفزت من نافذة ، يلتهمها أبعد في كل سرعة ، غياب الأعماق الذي لا يمكن تخيله . ومن ذلك ، فأن هناك شيئاً لمس . شيء كان موجوداً هنا دائماً . والفجر جد قريب حتى أن الفكر لا يمكن من أن ينام . ماء العيون يواصل الارتعاش فوق الحجرة . رياح شرقية تؤجج طقطقة العشب المحروق / ص232//
تأتي الملاحظة الجوهرية من العنونة " سأغويها وأقودها الى الصحراء " بأن المفعول به غائب ، غير معروف ، هو المتخيل الشعري الذي لا نعرفه إلا الشاعر المفتون بالشرق ، لكن نستطيع التقرب إليه ، إنه الذي انشغل بالغواية منذ زمن طويل وتعرف عليها شعرياً ، فيها الكثير من السرية والسحرية لارتباط الغواية مع الصحراء .
غواية متناقضة مع غوايات الأساطير التي حصلت في الفراديس والجنان والبساتين . الغواية المترامية التي بلا حدود ، أرادها نحو الصحراء ، لأنها المكان الواسع والمترامي . بلا حدود والمطلق الذي يحلو فيه التجلي والمناجاة مثلما هو في الأساطير والخرافات . هي مكان النبوءة الذي اختاره لوران غاسبار ، لأنه الآخر نبي الشعر الجديد وعاشق الشرق المذوب فيه والهائم معه للأبد . مكان سهلي مثير لدهشته ، لأن كثيراً من الأماكن التي كتب عنها في أوراقه وملاحظاته عالية ، مرتفعة . الصحراء مكان بكري ، بدائي وكأن القمر غادره قبل قليل . واختلطت فيه الطقوس الدينية مع الأسطورة والسحر . وقدمت لنا شعرية متسامية متعالية لا يمسك بها في أدق القراءات . الصعوبة متأتية من كون لوران غاسبار شاعر صعب ومعقد . تتداخل في نصوصه المرونة ، والمألوف ، المعروف واللامعقول ، والمأثورات اليومية وأماكنها الأسطورية التي تنزع حجابها الواقعي وتلوذ بالغرائبي لحظة انكشافها لعين الشاعر ، وكأنها أماكن للطقوس والأحلام فقط.
الأساطير حاضرة في نصوصه ، لا تغادرها ، لأنها روح الشرق المهيمن عليه . الشعر ينهض في السحر والأسطورة والماضي ، الذاكرة ، والمتخيلات ، والمدهش يختار ثانية الأسطورة ويحتمي بها مختاراً ، غير راغب بالهروب منها باتجاه الحافات الخارجية السهلية ، المائية ، المسطحة او المستوية وبالإمكان مطاردتها بالشعر أو النثر ، أو ملاحقتها مشياً أو ركضاً كما في نثريات الروائي إلياس كانتي .إنها أماكن مرتفعة اختارت الأعالي كي تحقق بلاغتها وهيبتها . وهذا الاختبار متأتٍ من أن لوران عاسبار يصعد بهاجسه الى الاعالي بتأثير ما عرفه عن الطقوس والشعائر والاساطير المروية في فلسطين والأردن والأماكن الاخرى .
إنه شحاذ جليل وأمير ، يقتنع بما هو قليل ومنحوت ، لأنه شاعر وليس حكواتياً يستجمع كل تفاصيل وعناصر الأماكن السرية أو الطافحة . تكفيه أسطر قليلة ليقول ما يستحقه الشعر وتفيض به ، تغرق فيه وتمسك بالمعنى والدلالات .
اعطته الأماكن المرتفعة نصاً ميتافيزيقياً ووهبته روحاً محلقة ، صوفية تأخذه للكون الذي يريد والمزدحم بالمشرقيات الحافظة لبكوريتها ، أرتضته يفتضها لأنه المشرف على أماكن أقل ارتفاعاً ، تهبها قداسة نازلة من فوق . إنه يحدق من العالي الى المرئي ، محاولاً اكتشافه جديداً مغايراً عندما لاحظه وهو بجواره .
لوران غاسبار مختلف عن الروائي " إلياس كانتي " المسحور بالشرق في كتابه المهم " أصوات مراكش " حيث كان واصفاً للأماكن الشفافة والملونة بزحمتها وطقوس يومياتها المظلومة بالشعر الموهوب عبر السرد ، والراسم لفراغاتها عبر الحلم والأسطورة أيضاً . الاسطورة والخرافة والمعقول المغلف بالسرد .
كتب لوران غاسبار عن أمكنة عربية تراكمت عليهما خصائص وملامح وأرواح وأحلام كثيرة وكانت السيرة . مثلما في الخلق الأول عندما كانت الكلمة استلم عناصرها الروحية الهائمة في الفضاءات والجغرافيات وتراكمت من خلال صورها وتخندقت ذاكرة شرقية تجاورت مع ما كان مختزناً . هنا الحكمة التي قالها غاسبار لحظة علوّه مع المكان المتسامي , والاشراف لم يتحقق إلا في الأماكن الشرقية عبر موروثات الغائب وأساطير لياليه المتكررة حتى في النهارات ، حيث تبدت مهارته الفائقة في نصيات سردية تزيح الشعر وتجعلك مرتبكاً وأنت تجدد نوعها . إنها متوترة بتركيزها وامتلاء شحناتها المرتعشة ، نصوص تتسع لحظاتها وتضيق ، تمتد بقوة المعنى اللائذ في عمق النص كما في " الجم ودقة " .
من يستطيع الاتصال بالعلية ، لا يقدر عليها إلا الجليل من المتصوفة الذين ابتكروا الحياة ومجدها عبر المطلق واستمرار التوق إليه . لذا اختزن لوران غاسبار كل روحانية الشرق في فلسطين والأردن وضفاف الفرات ، ليخلق لنا نصوصه الجديدة ، التي احتوت الأساطير وشفراتها البابلية . أمسك بها واعتبرها من عناصر نصه الجديد وألبسها بردة الخلود ولوحت لنا بطاقة السرد ومرونته الموظفة بمهارة الشاعر الخلاق العارف جيداً بأن الشعر والاسطورة متجاوران ومتحاوران حتى الأزل . يدخل أحدهما الآخر ويعطيه ما لا يعرفه ويحصنه بالبقاء للابد / الاسطورة . سعادة الشاعر غيابه في النص ، فمتى اكتشف الشاعر في شعره تعطلت رسائله . الأسطورة مخزن الشاعر وهوسه باللاهوت ، لأنها ــ الاسطورة ــ محيطه وحافته المفضية للأقداس والملوحة ببلوراته المشعة . وتظل سرية على الرغم من شعاعها . لكن هذا لا يمنع التذكير بأن نصوصه فيها عتمة مهدئة مريحة تعطي المتلقي رخاوة المكتشف ، النبوئي ، لأن الروح الصحراوية زاحفة مع نصوص غاسبار ، شرقية لا يغيب توهج حضورها الشمسي ، مثل زرادشت الموجود في الوجود في النهار والليل . غاسبار صديق الفجر والنهار ومجنون الغروب المؤقت . العتمة ملاذ الشعر والتستر من الافتضاح واللوذ بالغموض المريح ، من أجل توفير الكتم حجاب حياة الشاعر المكشوفة والغامضة ، لا من أجل الصعب وإنما من أجل المجاز .
انعكست حياة غاسبار بغوامضها وخفاياها في نصوصه السردية المتجاورة مع مدونات المتصوفة . تعطي وتخفي . تمنح وتستر تقول كل شيء يريد قوله وتصمت عن المعنى وترتضي لغزيتها . كريمة وبخيلة جداً . تومئ للكينونة ، تغرف من الوجود لأن بيته جاهز لاستدعائه ، لغته كاشفة لحركتها وسط بيت الوجود . من هنا الدلالة في نصوصه زئبقيته ، مرتجّة ، لا تأتيك وتقوى الذهاب اليها بسرعة وقوة . انها تأخذ من المشهديات شفراتها وتهب الواقع محاراته مثال ذلك ما اتضح في نص " هرقلة " سريته ، التي هي مخفيات العابد الذي لا يكتب بالكلمات ، بل يرسم بالصورة خارطته . جغرافيته اختزنت الهائل من التواريخ والتجارب والصياغات المختلفة والمتنوعة في تشكلها من نماذج خاصة به قائمة في ذاكرته ومطوفة ، معلنة عن مكوثها التاريخي بعشق صوفي مع المكان . وهذا ما تمظهر جلياً في نص " تكرونة " وملاحقته طيراً شعرياً ، لم يستطع الامساك به فكيف بالمتلقي ؟
واجه غاسبار الخلاق المتصوّف ما يعاونه على الامساك بلحظته وتمتعه بالأمكنة المقدسة ونوافذها الاستعارية بالمكشوف المسيحي والتآلف معها باستمرار ، لكن الزحف الصهيوني ، طرد غاسبار من فلسطين عام 1967م . ترك وراءه قداسة المكان ومروياته التاريخية ورحم أساطيره واختار تونس مكاناً ، لكنه ظل مرتبطاً روحياً بفلسطين وسردياتها . دخل تونس كأي غريب ، يجيء اليها ، لكنه اكتشف تآخيه معها وتآلفه وإياها ، لأنه ما زال ــ آنذاك ــ يحمل في أعماقه روح المشرق ومحكياته ، يتحرك في داخله ـــ ثانية ـــ الشعر والحلم وصاغ مناجاته للأمكنة ، كي يستعيد هدوئه الراسخ ورائحة لا معقول المرويات عن الأماكن .
ما لم يستطع عليه الشعر ، كان له السرد الذي لا يختلف كثيراً عن السرد في تجربة لوران غاسبار . يتداخل معه ، ويطغي عليه ويمنحه تاجه ، يلبسه إياه راضياً ومرضياً بالتتويج القدسي للجمرة التي تحولت عرشاً اختاره غاسبار وجلس عليه ، مرتفعاً عليه كي يصل بجسده الى مكان متعال ومرتفع ، هو أعلى نقطة في الوجود ليطلق صرخته المشبعة بالأساطير والغرائبية ورنين الأسطورة .
الأماكن في نصوصه الشعرية " مجلة الفكر العربي / العدد 38 " والسردية ضاجة بتقاليد الطقوس المتوارثة عبر قرون .
استنهاض خلاق ، مبدع احتفى به الشعر والمكان والطقوس ومتستراً بموروث الغائب .
من مدهشات السرد ، مجاورة الغرائبي مع الواقعي ، اللامعقول مع المعقول ، لأن السرد رحم هائل يتمتع بقدرات على استيعاب كل شيء ، ويصير ذاكرة ، مرتضية بالماضي والآن ، وعندما يطول سَكنُ الماضي يتحول خلايا حيّة ، نابضة بما هو مساعد على مقاومة التآكل والتجرف . سكن الأسطورة والسحر والدهشة مع المتهيب والعاشق بجنون " الصوفي " يستدعيها الشعر كلها ويحوز عليه وهذا غير متحقق دائماً ، بل يكون في زمن لا مثيل له ، زمن النبوءات والاستشراقات الكاشفة عن الواطئ عند التحديق اليه من كل . حيث المرئي والمخفي ، الغائب والعائد ، ( الحسي والعقلي ) والذي لن يأتي ، هذه هي خبطات الشعر الكوني ، عندما يتحدث عن نفسه ، وهذا ما قاله هايدجر عن هولدرن . انطوت سرديات غاسبار على الاستعادة ، وسببت شكلاً بما يعنيه النص ، انتسابا للنوع وسعته وتراكم ميثولوجياته ، بل بما حافظ عليه المكان من طاقة على استثاره الذاكرة ـــ كما قال صدوق نور الدين ـــ وتشغيلها لالتقاط الخفي من جمراته والامساك بها ، الشاعر مقتدر على خلق المكان الذي يريد ويحدد حجمه . وليس حدوده المادية المعروفة ، كي يصل الى نوع من الرهافة والشفافية ، قادرة على مجاوز العالم المادي القاسي ، بحيث ينسل باقتدار نحو محيط الشفاهية فيه ويخلق لنفسه فرصة الالتقاء بما لا يمكن لقياه ورؤيته بما لا يمسك به إلا عبر الشعر والاسطورة . أي الطاقة القصوى من التخييل .
إنها حالة الوجد الصوفي التي عاشها لوران غاسبار في أماكنه الشرقية ، محاولاً عبرها انقاذ ذات الشاعر المحاصرة منذ طفولتها في الغرب ، من ضغط المجتمع الصناعي ليحقق لنفسه فرارات عديدة هي المنقذ والمخلص ..........إنه الشرق .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

تخاطر من ماء وقصَب

موسيقى الاحد: كونشرتو البيانو الثالث لبيتهوفن

التقاليد السردية بين الأصالة والأقلمة

مقالات ذات صلة

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد
عام

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

علاء المفرجي يرى الكثير من القراء والنقاد انه كان للرواية ظهور واضح في المشهد الأدبي العراقي خلال العقود الثلاث الأخيرة، فهل استطاعت الرواية أن تزيح الشعر من عليائه؟ خاصة والكثير من الشعراء دخلوا مجال...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram