شاكر لعيبي
لو تحدثنا عن الرب الرافدينيّ السوريّ (حَدَد) المُسمّى أيضا (أَدَد)، فعلينا أن لا نتجاهل ورود (أدَد) في لسان العرب وفي الشعر الجاهليّ. ما نستخلصه من لسان العرب أن (أدَد) هو تصويت لـ (حدد) ولـ (هدد). نذهب أولاً إلى أنساب العرب، فـ (أُدَد) هو أَبو عدنان وهو أُدّ بن طابخة بن الياس ابن مضر؛ قال الشاعر (أُدُّ بن طابِخةٍ أَبونا، فانسبُوا يومَ الفَخارِ أَباً كأُدٍّ، تُنْفَروا). ورأى ابن دريد أَنّ الهمزة في أُدّ واو لأَنه من الودّ أَي الحب، وهو تخريج افتراضيّ بحقيقة وجود الربّ المعروف. والعرب تقول أُدَداً، وكان لقريش صنم يدعونه وُدّاً ومنهم من يهمز فيقول أُد.
وهذا يعني أنهم اعتبروا الربّ أباً سلاليّاً لهم. وما يعزز الفرضيّة أنك تقرأ في مادة (أدد) صفات عديدة وأفعالاً كثيرة للربّ (حدد، أدد). فالإِدُّ والإِدَّةُ هما العَجبُ والأَمر العظيم والداهية، والأَدُّ الغلبةُ والقوّةُ؛ قال: (نَضَوْنَ عنّي شدّةً وأَدّا - من بعدِ ما كنتُ صُمُلاًّ نَهْدا). وأَدُّ الناقة حنينها ومدّها لصوتها؛ وأَدّ البعيرُ يؤدّ أَدّاً هَدَرَ. وفي جميع ذلك نجد صوت هدير وامتداد يماثل هدير الرعد الذي يسبّبه الربُّ (حَدَد).
لدينا أيضاً صوت هديرٍ مرتبط بالجماع، ففي اللسان "والأَدُّ صوتَ الوطء [المُضاجَعة]؛ قال الشاعر (يَتْبَعُ أَرضاً جِنُّها يُهوّلُ - أَدٌّ وسَجْعٌ ونَهِيمٌ هَتْمَلُ)". هكذا يُربَط (أَدَد) بالشدة والدهشة وربطه العرب بصوت الجماع. وفي بيت الشاعر ما قد يوحي بالربّ السوري، أو بقاياه، فالنهيم ونَهَمَ يَنْهِم نَهِيماً هو صوتٌ كأَنه زحيرٌ، وقيل هو صوتٌ فوق الزَّئيرِ، والنَّهّامُ الأَسدُ لصوته. والنِّهاميُّ، هو الراهبُ لأَنه يَنْهَمُ أي يدعو. بل أن النِّهاميُّ هو الحدَّادُ عينه؛ وأَنشد (نَفْخَ النِّهاميِّ بالكِيرَيْن في اللَّهَب). أما الهَتْمَلةُ فهي الكلام الخفيُّ وقد هَتْمَل؛ قال الكميت (ولا أَشْهَدُ الهُجْرَ والقائِلِيهِ، إِذا هُمْ بِهَيْنَمةٍ هَتْمَلوا). وهَتْمل الرجلان تكلَّما بكلام يُسِرَّانه عن غيرهما، وهي الهَتْمَلة. في كل هذا بقايا أصوت الرب (حدد).
لكن حَدَدَ أو (هَدَد) أو (أَدَد) قد يكون مرتبطاً بموضوع ومفردة (الحِدَاد) حُزناً، وبكلمة حِدَادٌ والمُحِدُّ من النساء هي المرأَة التي تترك الزينة بعد زوجها للعدة.
نعرف أن الرب (حَدَد) كان إلهاً للعواصف والأمطار، إذ كان يتجوّل بعربته في السماء ويجلد الغمام لتتساقط الأمطار، أما ثوره فيسبّب الرعد. ونعرف أنه يرتبط مع الإله الأكادي أدَد، وأن حَدَد قد تكون أصلاً لكلمة (حَدَّاد) المعادن والسيوف، في اللغات الساميّة. فكيف تكون كلمة الحِدَاد حُزناً موصولة بالرب (حَدَد)؟
الجذر العربي (حَدَدَ) يشتمل على فكرة المنعة والشدّة بتجلياتها المختصرة في معدن (الحديد) المنيع، وأيضا فكرة الشحذ، والحدّة الحقيقية والمجازية، والمنع في قولهم (هذا أَمر حَدَدٌ) أَي منيع حرام لا يحلّ ارتكابه، وحَدَّدَ الزرعُ أي تأَخر خروجه لتأَخر المطر ثم خرج ولم يَشْعَبْ (وهنا علاقتان قويتان تربطان المنيع الحرام وتأخر الزرع، بالربّ الرافدينيّ). الأهمّ منهما أن (بعل هداد أو حداد) يظهر بصفته إلهاً يموت في الكتابات الأوغاريتية، إذ أن الرب (بعل = بعل حداد) ينتصر عليه الرب (موت)، بعد عبارات التحدّي يستسلم (بعل) ويبتلعه (موت) ومن ثم تبدأ المناحة وهي جزء هام من الأسطورة، ويكون أوّل النائحين (إيل) أبو الآلهة و(عنات) أخت (بعل) فتختفي مظاهر الخصب، وبعد ذلك تشرع (عنات) بالبحث عنه رمزاً لجهد إعادة الخصب، وأخيراً يقع الاحتفال بعودة (بعل): الخصب. فكرة الحِداد على ميت تقع في صلب الأسطورة، وهي موصولة، دون شك، بحكاية عشتار وتموز.
أما الحادُّ والمُحِدُّ من النساء فهي التي تترك الزينة والطيب للعدة، وهو تَسَلُّبُها على زوجها، والحِدادُ: تركُها ذلك. ولو قرأنا التفاصيل بروح الأسطورة، فلكأننا أمام الحِدَاد حزناً على الرب السوريّ (حَدَد). في الحديث (لا تُحِدُّ المرأَةُ فوق ثلاث ولا تُحِدُّ إِلاَّ على زوج). وفي الحديث (لا يحلّ لأَحد أَن يُحِدَّ على ميت أَكثر من ثلاثة أَيام إِلا المرأَة على زوجها فإِنها تُحِدُّ أَربعة أَشهر وعشراً). وإِحدادُ المرأَة على زوجها ترك الزينة؛ ولبس ثياب الحزن وترك الخضاب.