ستار كاووش
في ظهيرة أحد تلك الأيام البعيدة، كنتُ على عتبة بوابة أكاديمية الفنون، وأذا بأحد الاصدقاء يقترب مني ويخبرني بأن الرسام المعروف رسول علوان قد سأل عني ويريد أن يراني. وفي مساء ذات اليوم، ذهبت الى قاعة التحرير لأطلع على أخبار معرضي الشخصي (سيقان وأرصفة) الذي أُقيمُهُ هناك، ولألتقي بمجموعة من الأصدقاء. إقتربتُ من القاعة، أحمل على كتفي حقيبتي القديمة، ذات الشكل المربع، والتي ملأتها بزهور برتقالية اللون جلبتها لي صديقتي من جبال كردستان. استقبلتني مديرة القاعة، السيدة أحلام قائلة (الفنان رسول علوان جاء الى هنا مرتين وسأل عنك) ثم أردفت (اعتقد ان الأمر يتعلق بلوحاتك التي اعجبته كثيراً، ففي زيارته الثانية إنتظرك بعض الوقت على أمل أن تأتي، ثم ذهب قائلاً لي، أريد أن أرى هذا الشاب). إزدادت حيرتي وكثر فضولي حول ذلك الاهتمام، لكني فرحت، لأن فنان بمكانة رسول علوان معجب بلوحاتي.
بعد مضي أسبوع، بينما كنت منشغلاً مع بعض الزائرين في المعرض الذي اقترب من نهايته، فُتِحَ باب القاعة ودخل رجل يناهز الستين من عمره، يحمل بيده حقيبة سوداء اللون ويعتمر قبعة (بيريه)، بينما تتدلى ربطة عنقه القديمة ببعض الاهمال، وقد بدا وجهه تحت ظل القبعة، كثير الشبه بوجه الرسام بيكاسو. خطا ببطء الى الداخل، ولم يكن صعباً عليَّ أن أخمن بأن هذا الرجل هو رسول علوان. إستقبلته بشكل مناسب، وبعد أن تعارفنا إتَّضَحَ لي، انه متحمس كثيرآً لأعمالي، التي تستهويه، ويرى فيها حالة خاصة، بل أربكني وكنت أظنه مغالياً حين قال لي (برأيي أنت رسام تعبيري حقيقي، وربما تكون الوحيد الذي يرسم بهذه الطريقة في العراق)، ثم أردفَ ( أين تعرفتَ على هذه التقنيات، وكيف عثرت على هذا الطريق؟ لماذا أعجبتك هذه المعالجات، ومن أين إستلهمتها وهي غير موجودة في الفن العراقي؟) فأجبته مازحاً ( أنا أخرج من مرسمي كل ليلة خلسةً، وأذهبُ الى شوارع درسدن وبرلين لألتقي بأصدقائي التعبيريين كيرشنر وماكس بيكمان وأوتو ديكس، أتسكع معهم هناك، وأتعلم منهم تقنيات الرسم) إبتسم أستاذ رسول، ليضحك بعدها ضحكة طويلة وهو يمسك بسبابته وإبهامه حافة قبعته ويدفعها قليلاً الى الأعلى.
توطدت علاقتي بهذا الفنان الذي درس التعبيرية في ألمانيا وتأثر بأستاذه أريك هيكل (أحد مؤسسي المدرسة التعبيرية)، وقد كثرت لقاءاتنا وتجوالنا معاً في شوارع بغداد، وبين مكتباتها، رغم فارق العمر الكبير بيننا، فهو كان يكبرني بأربعة عقود تقريباً. كنت أسأله عادة عن طريقة دراسة الرسم في ألمانيا، وعن تقاليد الفن هناك، وهو بدوره كان يستهويه هذا النوع من الاسئلة التي تعيده الى أيام جميلة عاشها في البلد الذي أرسى فنانوه تقاليد المدرسة التعبيرية.
ذات يوم شتائي بارد إلتقيته قرب بناية الأكاديمية، كان يبدو منشرحاً وقد بانت على وجهه إبتسامة ودودة، وهذا ما شجعني لسؤاله عن الشيء الذي إنتظرته وقتاً طويلاً، فاقتربت منه قائلاً (أستاذ رسول، أتمنى ان ترسم لي بورتريت بإسلوبك) نظر اليَّ صامتاٍ وكأنَّ سؤالي قد فاجئه، ليقترب مني قائلاً بصوته الخفيض (أنا أريدك أن ترسمني، فهل تمانع أن أجلس لك موديل لترسم لي بورتريت؟) لم اصدق ذلك، وقد كان لفعل كلماته عليَّ تأثير السحر. أحببتُ الفكرة كثيراً، وذهبنا مباشرة الى قاعة الاستاذ فائق حسن، التي كانت وقتها فارغة، ورسمت له بورتريتاً بقي شاهداً على تلك الصداقة الفريدة التي جمعتني به.
وبعد أن خرجت من العراق سمعت بوفاته، ليبقى راقداً كل تلك السنوات في ذاكرتي بطمأنينة ومحبة، لكنه ينهض الآن من جديد بعد أن اتصل بي الصديق محمد عبد الزهرة من كندا وأرسل لي صورة البورتريت مع بضعة كلمات يقول فيها (ستار هذا بورتريت رسول علوان الذي رسمتَهُ له، وهو الآن من مقتنياتي).