ستار كاووش
زارني صديق ذات يوم، لقضاء بعض الوقت بضيافتي. وفي صباح اليوم التالي، بينما كنتُ أهمُّ بإعداد الفطور، لم أجده في فراشه، فقد غادر دون أن أعلم. لكنه رغم عجلته، ترك على الطاولة كتاباً حول حياة وأعمال الرسام النمساوي إيغون شيله (١٨٩٠-١٩١٨)، وقد كتب لي إهداءً جميلاً على صفحته الإولى. منذ تلك اللحظة أحببت شيله وغرقت بعالمه الغريب وشخصيته المحيرة المضطربة، كما سحرتني وستبقى كذلك الى الأبد تخطيطاته المذهلة المليئة بالشحنات العاطفية والاشارات الايروتيكية والوضعيات الفاضحة التي تتجاوز المألوف.
في السنوات الخمسين الأخيرة كان شيله حاضراً بتأثيره على أغلب رسامي العالم في مراحلهم الأولى. يكاد لا يتخلص رسام شاب من شراك الاعجاب به وبأعماله الساحرة. ورغم أن كل الرسامين الشبان فيهم شيء من شيله، لكن مع ذلك ليس بقدرتهم الإفصاح عن هذا التجاذب بسهولة، لأنك حين تريد أن تكون مثله، عليك أولاً أن تكون عارياً من الملابس ومكشوف الروح، متجرداً من التقاليد ومتحرراً الى أبعد الحدود من الاعراف الاجتماعية، وربما تفتقد للتربية التقليدية. لكنك كرسام، وإن ناورت بتحفظاتك، ستنقاد بشكل أو آخر لعالم هذا الفنان الشاب، ومجرد أن تجده، ستَلتَفُّ حبائله الجمالية -من تلقاء نفسها- حولك مثل شباك صياد، لتسحبك نحو هذا العالم الذي يبدو ممنوعاً لكنه مليء بالصبابة والرغبة والتحرر.
شاهدت الكثير من أعماله الصاعقة بتعبيريتها وعريـِّها سواء في مدينة فيـينّا التي توجد فيها أغلب أعماله أو في مدن أخرى استضافت معارضه. وكانت لاهاي واحدة من المدن التي استضافته، حيث خصصت متحفها الكبير لأعمال هذا الرسام الذي مزج الرومانسية مع الفجور، ليقدم فناً نابعاً من روح مضطربة مليئة بآلام تبدو غير قابلة للترويض. ومازال بورتريت حبيبته وولي نويزل الذي يعتبر من أهم مقتنيات متحف لاهاي، شاخصاً بذاكرتي بحجمه الكبير، وهي تطل بثوبها المخطط بألوان قوس قزح، والمثبت بأزرار بيضاء وحزام بنفسجي. تظهر وولي بهيئة مسترخية، تشبه استقرار دمية في واجهة محل، بشعرها المسحوب الى الخلف، وعينيها الذابلتين، وملامح وجهها الذي أَفلَتَتْ منه تواً، إبتسامة طافت بينها وبين الرسام الذي ربما ألْمَحَ لها بإشارة أو نكتة أيروتيكية. هنا تتدلى يديها بأستسلام غريب في حضرة رسام أكثر غرابة.
تأثر شيله كثيراً بالرسام غوستاف كليمت، الذي كان بالنسبة له رساماً نبياً يملك كل أسرار الرسم وجماله وتأثيره، لكنه مع ذلك، وجد في النهاية أسلوبه الخاص الذي عكس شخصيته ورؤيته الفنية، فالخطوط اللينة والأشكال المستديرة عند كليمت، أصبحت حادة ومتوترة ومنفعله عند شيله، والألوان الزخرفية المتناغمة عند صاحب (القبلة) صارت سحبات تشبه آثار السياط عند ايغون الشاب، لتبدو الشخصيات التي يرسمها مخيفة وغريبة بالنسبة للمشاهدين، حيث رسم الرجال والنساء غالباً، بمشاهد موغلة في إظهار عوراتهم وبدون أي رادع، وبوضعيات غير معتادة من قبل. لكن مع ذلك نالت لوحاته وقتها بعض الاستحسان.
خطوط شيله واضحة وقوية ومؤثرة، وتحمل مسحة تكعيبية نوعاً ما، وهو يتحكم بها بطريقة بارعة وحساسة، لهذا يعدَّهُ الكثير من النقاد مخطِطاً أكثر منه رساماً، فهو يضع الألوان ويملأ بها المساحات، بعد أن يتماسك الخط لديه ويكتمل، حيث عرف كيف يمزج اللون مع غرابة الخطوط ليعزز تعبيريتها. أما لوحاته الشخصية التي رسمها لنفسه، فهي أيضاً مقلقة وغريبة، حيث يظهر عارياً، بعيون جاحظة وأصابع مفتوحة بطريقة هلعة ومروعة، وهنا يبدو مثالاً لشخصية الانسان الجنسي النرجسي.
كانت علاقته بأمه صعبة للغاية ومليئة بالمشاكل، بسبب غرابة شخصيته، هو الذي أقام علاقة محرمة مع أخته جيرتي، إضافة الى انه كان يجلب الى مرسمه فتيات قاصرات ويرسمهن عاريات، وقد دخل السجن بسبب ذلك.
سنة ١٩٠٩ إلتقى بالناقد آرثر روسلر، الذي أُعجِبَ بأعماله كثيراً، وهو الذي عَرَّفَ العالم به بعد سنوات طويلة من موته، حيث كتب سيرة شيله الذاتية، ليتعرف العالم على فن ولوحات هذا الفنان الغريب، والتي أخذت طريقها الى أكبر المتاحف.