فوزي كريم
قرأنا رواية الأمريكي جَيْ دي سالنجر "الحارس في حقل الشوفان" (ترجمة غالب هلسا) في مطلع السبعينيات. في الانكليزية لها مذاق مختلف بسبب لهجتها الشعبية الأمريكية التي خُص بها الشبان في عمر مراهقتهم، المتدفقة في تلقائيتها. ثمة عبارات كثيرة لا تبدو في البديل العربي سوية، الأمر الذي جعل الترجمة متعكرة. صدرت في أمريكا عام 1951، وأثارت ردود أفعال متعارضة، ولكنها كانت لصالحها، خاصة وسط قرائها من الشباب في مرحلة المراهقة، رغم أنها نُشرت للبالغين. لأن بطلها المركزي مراهق، كثير الشقاوة، تواق للخروج عن كل سياق اجتماعي، حالم ولكن بلا هدف. مراهق أمريكي مئة بالمئة.
الرواية فاقت في مبيعاتها وشهرتها كل تصور. تُرجمت مع الزمن إلى قرابة 46 لغة، وبيع منها قرابة 65 مليون نسخة. والذي عزز ذلك طبيعة المؤلف الغرائبية. فقد كان سالنجر (1919 ـــ 2010) منذ مطلع محاولاته الكتابية للقصة القصيرة يطمح إلى شيء من كمال في النص الذي يكتبه. لذلك لا يتقبل من ناشريه، أو محرري النصوص لديهم، الذين يسعى إليهم بهمة أي مقترح في تحرير نصه. كانت ردود فعله حادة، وكان صبرهم طيعاً. خاصة مع مجلة The New Yorker الشهيرة، التي أحست بموهبته الاستثنائية. تحمّل رفضهم لقصصه مرات عدة، وتحملوا إلحاحه في إرسال الجديد منها، إلى أن وفّقا في التعاون. فكان نشره في هذه المجلة الشرارة التي أوقدت سمعته ككاتب.
ثم أنه مع السنوات قاد حياةً لا تخلو من غرابة في تطرفها. كان شديد الانصراف إلى الكتابة وحدها، وكأنها بديل عن الحياة برمتها. حتى أن علاقاته النسائية، وعلاقته العائلية أيضاً، التي كان يطمع بها كانت عرضة للتعكير بسبب ذلك. دخل الحرب الثانية جندياً متطوعاً وبرغبة، بالرغم من الفحص الطبي الذي لم يؤهله لذلك. كان داخل جحيم الحرب يحرص على مواصلة الكتابة لفصول روايته الأولى "الحارس في حقل الشوفان". بعد الحرب أصبح بوذياً، ثم هندوسياً فيما بعد. وحين اتسعت شهرته على أثر نشرها بعد الحرب صار كمن يشعر بالذعر من الشهرة ذاتها، ومن وسائل إعلامها من ناشرين وصحافة. ففضل العزلة المختارة وسط حقول New Hampshire. صحبته قليلة وتكاد تكون سرية، ولكن الآلة الطابعة كانت بديلاً عن العائلة وكل صحبة. في معتقله المختار كان يواصل الكتابة في الساعات الأولى للنهار، وفي الليل ينصرف إلى مشاهدة الأفلام السينمائية. ولديه منها أرشيف ضخم. بالرغم من أنه رفض مرات عدة عروضاً لمنتجين ومخرجين، ومنهم الشهير إيليا كازان، والفرنسية الشهيرة بريجيت باردو، نتيجة خيبة أمله الغاضبة من هوليوود، التي قدمت إحدى قصصه القصيرة في فيلم بعنوان My Foolish Heart .
سالنجر عاش حياة طويلة، ولكنه صرف ثلثيها في عزلته المختارة. كتب ونشر فيها القصص والروايات القصيرة، ولكنه ترك خزيناً من نتاجه للنشر بعد وفاته، وبتراتب تاريخي وفق خياره هو. وما استعادتي هذه لشخصه ولروايته إلا نتيجة مشاهدة مُتأخرة لفيلم جديد عُرض هذه الأيام عن حياته، بعنوان "متمرد في حقل الشوفان" Rebel in The Rye، إخراج Danny Strong (ممثل أمريكي وكاتب سيناريو، ومخرج في فيلمه الأول هذا). الفيلم يتابع كل مرحلة من مراحل حياة سالنجر، حياته المبكرة في جامعة كولومبيا، خدمته العسكرية في الحرب الثانية، ظهوره ككاتب قصة قصيرة في مجلة "نيويوركر"، نشر روايته "الحارس في حقل الشوفان" ونجاحها الساحق، ثم مرحلة عزلته التامة التي أصبح فيها مركز فضول لكل أمريكي، وغربي بصورة عامة. الفيلم اعتمد كتاب "حياة جَيْ دي سالنجر لـ"كينيث سلوينسكي". قام بدور البطل الممثل الانكليزي Nicholas Hoult.
الفيلم ممتع، خاصة لمن يعرف سالنجر وروايته. يعرض لأحداث تتمتع بالإثارة، ولكنها إثارة تظل على السطح، لا تذهب بعيداً في رصد العالم الداخلي لروائي على قدر من الحساسية والالتباس، انصرف في معظم أعماله القصصية إلى دراسة شخصيات من مرحلة المراهقة، تتعرض لضغوط إفساد متواصل لبراءتها وعفويتها.