لطفية الدليمي
تراجعت مكانة الثقافة تراجعاً مروعاً عندنا بوجود حكومات المحاصصة القميئة وصار الحديث عن الثقافة مثار هزء وسخرية من قبل معظم المتنفذين في الحكومات المتلاحقة وغاب الاهتمام بفروع الثقافة المختلفة وانسحب المثقفون الجادون ، فقد تصدر المشهد الرسمي مزاج ينكر التراكم الثقافي العراقي ويلغيه، وطال الفساد هياكل المؤسسات الثقافية الرسمية انعكاساً للفساد الحكومي الجائح ، وإزاء هذا الوضع المحبط لثقافتنا لايتبقى أمام المعنيين بها – أفراداً ومؤسسات خاصة - سوى التصدي للاهتمام النظري بالثقافة ومفهومها الواسع وملاحقة تطورها التاريخي باعتبارها فرعاً حيوياً من تأريخ الافكار.دفعتني هذه الحقيقة لترجمة بضعة كتب عن الثقافة كان أولها كتاب (الثقافة) لتيري ايغلتون – صدر عن المدى - ثم عملت على ترجمة كتاب (الثقافتان) للعالم - الروائي تشارلس بيرسي سنو وهو الكتاب الذي أحدث تأثيراً واسعاً لما أثاره من تعليقات وسجالات في الثقافة العالمية المعاصرة.يُعدّ كتاب الثقافتان واحداً من الكلاسيكيات المهمة التي طبعت الثقافة العالمية بطابعها المميّز إلى الحدّ الذي غدت فيه مفردة (الثقافتان) تُقرن باسم (سنو) ، ونعلم أنّ هذا الكتاب كان في الأصل محاضرة ألقاها (سنو) في جامعة كامبردج عام 1959 (في سياق محاضرات ريد Rede الشهيرة) وبعنوان (الثقافتان والثورة العلمية) ، ثمّ أضاف للنصّ المطبوع من المحاضرة عام 1963 جزءاً تكميلياً بعنوان (الثقافتان : نظرة ثانية) ، ومن المدهش أنّ هذه المحاضرة نُشِرت في مطبوعات ثقافية كثيرة ونشرتها مطبعة جامعة كامبردج بصيغة كتاب صدر في طبعته الخامسة عشرة عام 2012 ، مما يؤكد مدى أهمية هذه المحاضرة وراهنيتها في الثقافة المعاصرة . أنضجت محاضرة سنو (مع المراجعات الخاصة بها) لديً أسبابا محرضة عديدة لترجمتها ؛ ففيها الكثير ممّا يجعلها مصدر دلالة مرجعية تؤشر غنى الثقافات الحية مقابل الجدب الثقافي لدينا وتؤكد الدور الأساسي الذي تلعبه الجامعات في تطور ثقافة المجتمعات الطامحة للتقدم ؛ فقد قُدمت هذه المحاضرة في جامعة كامبردج العريقة التي تأسست في القرن الثالث عشر ضمن تقليد ثقافيّ سنويّ لإستضافة أحد العلماء الثقاة في حقل معرفيّ محدّد لإلقاء محاضرة في ذلك الحقل ، ولطالما إستضافت الجامعة أعلاماً صارت محاضراتهم كلاسيكيات ثقافية مرجعية ، ولا يقتصر الأمر على جامعة كامبردج ؛ بل هو تقليد تتّبعه كلّ الجامعات الرصينة في العالم مما يكرس الجامعة هيكلاً فاعلا ومؤثرا لتحقيق الإنعطافات الثقافية (الثورية) في حياة المجتمعات بدل أن تبقى الجامعة محض هيكل محكوم بسياقات مؤسساتية وظيفية محدودة الأثر. تنطوي محاضرة سنو على تفاصيل ثرية ؛ غير أن ميزتها الأهم تكمن في تناول (سنو) لموضوعة (الثقافتان) من وجهة نظر عالمٍ تسنى له العمل كمسؤول إداريّ حكومي لصياغة ما صار يعرف بـ (سياسات العلم والتقنية) - ذلك المسعى الذي يجعل العلم والتقنية أداة فعالة يمكن رؤية مفاعيلها على الأرض في إطار الهيكل الحكوميّ المؤسساتي المُتاح بدل أن تبقى محض أبنية فوقية تنظيرية نسمع ضجيجها وأصداءها ولانرى حصادها على أرض الواقع . هناك الكثير من التفاصيل المثيرة في محاضرة (سنو) ستكون متاحة في الكتاب أمام المعنيين بتاريخ الأفكار ، ومع مواصلتي العمل في ترجمة هذه الاعمال للعربية فإن غصة تتردد في روحي لبؤس واقع ثقافتنا وانشغال المؤسسة الرسمية بالفعاليات العابرة والعاجزة عن تأسيس فعل ثقافي مؤثر في حياتنا.