الأربعاء، 16 إبريل 2025

℃ 16
الرئيسية > أعمدة واراء > البرج العاجي: موسيقى حركات الإعراب

البرج العاجي: موسيقى حركات الإعراب

نشر في: 10 يونيو, 2018: 06:30 م

 فوزي كريم

كلما أرهفَ الفنُّ التشكيليّ العينَ، كلما استأنستْ العينُ للحرف العربي ولحركاتِ إعرابه. وكلما أرهفتْ الموسيقى الأذنَ، كلما طرِبتْ الأذنُ لصوتِ الحرفِ العربي ولحركاتِ إعرابه. وأنا أميلُ اليوم لكتابة قصيدتي، بصورة خاصة، على الحاسوب من كتابتها على الورقة، بفعلِ سحرِ الحرفِ وحركتِه الاعرابية، وهو يرتسمُ بشتى الأشكال التي أرغبها، على أثر لمسة الآلة الطابعة، وكأنه يندلق من زبدة الضوء، بالغَ الحضور، على الشاشة الفضية. يخرجُ إليّ أجردَ الشكل، حتى أُملي عليه بالحركة حيويةَ التشكيل البصري. ويخرجُ أجردَ الصوت، حتى أُملي عليه بالحركة حيوية النغم. استيناس العين يتوحّد مع طرب الأذن، لأن الحرف العربي مع حركة إعرابه يتطلّب إيصاتاً مسموعاً. ولذا عادة ما أكتب قصيدتي بصوت مسموع.
في الانكليزية تكمن موسيقى المفردة في حروف العلة الخمسة A,E,I,O,U، وفي العربية حروف علّة شبيهة (وتسمى فرعية)، ثم تأتي الحركاتُ إضافةً (حركات إعراب أصلية)، تُحمّل المفردة مزيداً من الإصاتة الموسيقية. إقرأ لأبي نؤاس، بأريحية أبي نؤاس، وغنائيته: "حَفَّ كأسَها الحَبَبُ/ فَهْيَ فِضّةٌ، ذَهّبُ"، ستجد رقصاً خفيّاً، وغناءً خفيّاً في كيانك، حتى لو كانت الموسيقى في ذهنك من المحرّمات. يُخيّل لي أحياناً أن رؤية الحركات المتلاحقة في هذا البيت الشعري (فتحة/ فتحة مشددة/ فتحة/ سكون..الخ)، والتي تكوّن بصورة غير مرئية "تفعيلة" الإيقاع، تشبه النوتات الموسيقية، التي تكوّن النغم.
في أمسياتي الشعرية الغربية القليلة، عادةً ما أقرأ الأصلَ العربي بعد قراءة النص المترجم: خذوا الدلالةَ من النص المترجم، أقول لهم، أما روح الدلالة فتُقبل عليكم من موسيقى الأصل. وكانوا يستعيدونني دائماً، بفعلِ الطربِ الموسيقيِّ، في قراءة النصِّ العربي. ثم أن حديثَهم معي، بعد انتهاء الأمسية، عادةً ما ينصرف إلى هذه الجاذبية الموسيقية في لغة الشعر العربي.
الحروفُ العربيةُ وحركاتُ إعرابها تنطوي على عنصريْ الموسيقى الأساسييْن: "الايقاع"، و"اللحن". الإيقاع يتولد من ميزان تلاحقِ الحركة والسكون (الوزن)، أما اللحن أو النغم فينبثق من حركات الاعراب، ومن اللغة الشعرية للشاعر، التي تعكس طبيعة تجربته الداخلية. نتبينها حين نقارن قصيدتين من الوزن ذاته، لشاعرين مختلفين. والعربية في هاتين بالغة الوضوح والتميز، على خلاف الانكليزية أو بعض اللغات الأوربية التي يتماهى فيها إيقاع الشعر مع إيقاع النثر. ولذلك تبدو الدعوةُ لمحاكاة (شكل) Free verse الانكليزي لدى بعض الكتاب (جبرا ابراهيم جبرا، عبد الواحد لؤلؤة، سركون بولص..) مُملاةً ثقافياً، ولا شأن لها بطبيعة اللغة الشعرية العربية. ولو كانت لغةُ الشعر الصينية ذات سيادة ثقافياً كالإنكليزية، فستجد من يدعو، باسم الحداثة، إلى ضرورة اعتماد شكلها الإيقاعي في الشعر، بالرغم من استحالة الاحساس بالإيقاع فيها، أو النغم.
حين كنت صبياً، وقد علِقَ بي ولعُ القراءة، كانت كتبُ التراث هي المفضّلة، لا لشيء إلا لأن حروفَها وحركاتِها تؤنس العين، وتُطرب الأذن. ولقد كنتُ يومها أخططُ وأرسم بالألوان على الورق والخشب، وإذا أطربني بيتُ الشعر أغنّيه. وهما عاملان سياديان. ولي خربشات في الكتابة تطورت فيما بعد إلى كتابة القصيدة. في الكتبِ المحققة كنتُ أحبُّ أن أقلّدَ كتابة المخطوطات المصورة، التي أستعيدُ لذاذتها اليوم في طرق الكتابة في المغرب العربي.
من بين مطبوعات كتب التراث، كنت أحرص على اقتناء بعض ما أصدرته المطبعة الكاثوليكية، و"الكتاب المقدّس" ضمناً، بفعل خواص الحرف والحركات المطبوعة. من بينها كتاب "مجاني الأدب" للأب شيخو، الذي احتفظُ بجزئه الأول، المقتصر على منتخبات الشعر الجاهلي، حتى اليوم. بين حين وآخر، أُخرجُه وأتاملُ فنَّ الطباعة في توزيع المتن والهامش، والعناوين الجانبية للفقرات، بالحرف الواضح على شدة صغره. أتساءل إذا ما زلتُ أقرأ فيه، طمعاً بحلاوةِ النظرِ والسمعِ في الحروف وحركاتها المتلاحقة، كما كنتُ أفعل أيام الصبا، أم طمعاً باستيعاب هذه الكثافة التي تتمتع بها اللغة والصورة الشعريتان أيضاً، في هذه النصوص التي سبقت الاسلام؟ لا شك أنهما مهمتان، تُكملُ إحداهُما الأخرى الآن. خاصة وأن الميلَ إلى كتاب التراث، أقرؤه بإصاتة، صار أشبه باستراحة السنوات المتأخرة من العمر.

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

التربية تصدر إعلاناً بشأن دوام غداً الأحد

ما سبب تغاضي "إدارة الدولة" عن تعديل قانون الانتخابات؟

الكشف عن نسب إنجاز مشاريع ميناء الفاو

وزير الصناعة: منافسة المنتج المحلي للبضائع المستوردة صعبة

انتهاء المفاوضات بين إيران وامريكا

ملحق معرض اربيل للكتاب

الأكثر قراءة

من يونيتاد الى المحكمة الجنائية الدولية..العدالة الدولية تحت المطرقة

سيكولوجية تجنيد العقول في الجماعات الارهابية الدينية

هلال العيد.. جدل متجدد بين الفقه والعلم وثقافة الاختلاف

قناطر: العالم يتوحش .. المخالبُ في لحمنا

العمود الثامن: قوات سحل الشعب

العمود الثامن: اربيل تقرأ

 علي حسين صبيحة كل يوم يجد المواطن العراقي المسكين نفسه محاصرا بأخبار الصراع على السلطة، بين الذين يجلسون على كراسي السلطة.. حالة غريبة وعجيبة. هذا المواطن بعد تجربة مريرة لن يصدق أكذوبة أن...
علي حسين

كلاكيت: "ندم" وعودة الفيلم الجماهيري

 علاء المفرجي الانتاج السينمائي الموجه للجماهير العريضة بهدف جني الارباح من شباك التذاكر، هو الظاهرة التي لازمت الانتاج السينمائي في كل مكان، وربما كانت السبب الأساس في تراكم خبرة السينمات التي أزدهرت فيما...
علاء المفرجي

مرور نصف عقد على رحيل رفعة الجادرجي 10 نيسان 2020

بلقيس شرارة منذ خمسة اعوام فارق رفعة الحياة، وترك فراغاً كبيراً في حياتي. فقد كان رفيق فكر منذ ان تعّرفتُ عليه، وارتبطت حياتنا بذلك التقارب الفكري الذي ثبّت الأسس التي بنيت عليها تلك الرفقة...
بلقيس شرارة

الحاكم بمنظور إمام سلطة الحق

د. قاسم حسين صالح يعدّ الأمام علي اول خليفة وأول رجل دين في الأسلام ينتبه وينّبه الى صفة غاية في الأهمية يشترط توافرها في الحاكم هي ان يكون متمتعا ( بصحة نفسية وعقلية!).. وتعني...
د.قاسم حسين صالح
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram