ناجح المعموري
تثير التجربة النقدية والمعرفية للمفكر سعيد الغانمي اهتماماً جوهرياً ، لأنه يذهب عميقاً في فضاء التأويل. ويضع المتلقي أمام كشوف تبدو غريبة ، لكنها قريبة تماماً ، ومن هنا تتولد الدهشة لدينا ، ونحن نقرأ الغانمي وهو مستمر بانجازاته المعرفية الكبيرة. وأكثر ما لفت انتباهي وأنا أتابع الأستاذ الغانمي، من خلال كل ما تيسر لي الحصول عليه من كتبه الكثيرة ، العلاقة الصعبة والمرنة في آن مع ملحمة جلجامش ، إنها حاضرة بذاكرته ، يوظفها ويستعين بها مراراً عديدة ، ولعل المثير للدهشة والاستغراب ما اتضح لي ، وأنا اقرأ أخر إصداراته " أقنعة المقنع الخراساني " والذي تلمس ، فيه ما هو ظاهر ، وكامن في آن . ويضيء الغانمي لنا ممكنات حركة النصوص عبر تاريخ طويل ولا وجود لمستحيل أمام انتقال العقائد والطقوس والشعائر. وسأحاول الاستعانة بما توصل إليه وتذكير القارئ بأن السرديات لا تتعطل، بل هي حاضرة ، متحركة ولكن حركتها متباينة ، والمهم إمتلاكها طاقة التأثير وتحفيز الآخر ، على استعارة ما يراه ضرورياً ، وممكناً توظيفه . وجدت وأنا أقرأ "أقنعة المقنع الخراساني" ذكاء ودقة الغانمي في اختيار عنونة كتابه ، لأن المقنع كما قال يونغ شخصية تاريخية قادرة على أنتاج أساطيرها واستحضارها باستمرار وقد تبدّى هذا في الكتاب الذي يستحق القراءة والتعرف على خطورة التفاصيل فيه ، المساعدة على كشف صراع الثقافات ودموية الديانات، وتمظهر الجماعات المغايرة من ثمار ذلك وهي عديدة.
كانت ملحمة جلجامش وما زالت ، على الرغم من تاريخها الطويل منذ 4500ق.م مثيرة للاهتمام والقراءة، بين مختلف الجماعات الثقافية والفنية والأكاديمية. وهي أكثر الملاحم قدماً في التاريخ مع أثارة للجدل والاختلاف . وظل حضورها في الحياة العامة والخاصة للأفراد والجماعات ، فاعلاً حتى حصلت استعادة لعديد من العقائد والطقوس التي سادت في مرحلة إبان الحقبة السومرية. والدليل على شيوع حضورها وسيادتها، ملاحظة الشاعر فوزي كريم حيث قال إذا ذهب القارئ الى محرك البحث، فسيجد (10،200،000) مدخلاً تحت مادة جلجامش ، وهو رقم مذهل يكشف عن حجم المتابعة والاهتمام الغريبين.
ليس سهلاً التجاور مع النص والتأثر به ، بل أمر صعب ، لأنه يعني حصول عامل موضوعي وأخر ذاتي ، يفرحني الحوار مع الملحمة ، وفي ذلك تعبير عن صراع خفي ، وآخر ظاهر ، أوجد ضرورة توظيف ما شعرت الجماعة بأهميته ما اختارته ، لأنه ينطوي على تلبية ملحة لما اقتضته ديانة جديدة مثل المانوية ، وما استولدته من عنف وقسوة وحملات إبادة . لكننا يجب أن لا نتجاهل الأسباب التي ساهمت وشجعت بتشكل حركات ، وجماعات معارضة ، ومناوئة للإسلام ، وكيف هي ردود الأفعال الدموية المرافقة للدعوة ( المانوية ) التي انبعثت في قرية مجاورة لمدينة بابل وقد ادعى النبوة وصرح أحد أتباعه " المقنع الخراساني " بالإلوهة على سبيل المثال .
***
يعرف الجميع بأن الملك جلجامش يمارس ما ابتكره هو من مزاولات القسوة والعنف وقد عرضها نص الملحمة بوضوح تام ، وأسهبت الدراسات الإشارة لها ومن خصائص ممارساته اليومية ، ما منحته إياه صفته الدينية ، وحيازته لثلثين من صفات الإلهة ، وترتب له حق الليلة الأولى المعروف في العراق القديم ، وبعض الشعوب والقبائل ، فكان يدخل على الزوجة أولاً، وكأنه يباركها ويقدسها ، ومن بعد يأتي دور العريس .
***
سأضطر للإشارة للنصوص المهمة المثيرة للانتباه وما تنطوي عليه من محاورة وجوار مع عقائد الجنس التي عرفها العراق القديم وبعض حضارات الشرق . وأيضاً الطقوس المعنية بالزواج الإلهي المقدس ، واتساع مساحة مزاولة الجنس ، حتى قبل وبعد الإسلام في مكة .
ذكر الأستاذ سعيد الغانمي بأن هاشم بن حكيم المعروف بالمقنع بمروره بقرية تدعى " كاوة تيمردان " وتبرقع بحرير أخضر لورعه ، وإدعى الإلوهية وإنه تجسد ، إذ ليس لأحد أن ينظر إليه قبل التجسد ... واجتمع إليه المبيضة والترك ، فأباح لهم الأموال والفروج ، وقتل من خالف ، وشرع لهم جميع ما أتى به مزدك / ص76//
بعد انتهاء مردكية المقنع علناً ، يقول البغدادي : كل واحد منهم يستمتع بامرأة غيره .... وفي مطلع القرن الرابع ينقل لنا الداعية الإسماعيلي أبو تمام النيسابوري مؤلف كتاب الشجرة ... ( أنهم يبيحون نساءهم ويقولون المرأة الريحانة من اشتمها لم تنقص ، وان الرجل منهم إذا أحب أن يخلو بامرأة واحد منهم يدخل منزله ويضع علامة لدخوله على الباب ... فإذا جاء زوجها وعرف تلك العلامة لم يدخل ، وانصرف حتى يفرغ صاحبه من حاجته . وحدثني عمرو بن محمد عن شيخ من أهل بخارى إنه قال : إن لكل جماعة من هؤلاء المبيضة رئيساً يتولى أفتضاض نسائهم ليلة الزفاف / ن. م / 97//
وعرف الزناديق في نهايات العصر الأموي وبدايات العصر العباسي الدعوة الى اللذة الحسية أو انتشرت أيضاً في مدينة البصرة .
يتبع