TOP

جريدة المدى > عام > ثنائية الموت والحياة وتوظيف الزمن الساخر

ثنائية الموت والحياة وتوظيف الزمن الساخر

نشر في: 13 يونيو, 2018: 08:00 م

 نهار حسب الله 

تعد رواية (الساخر العظيم) للقاص والروائي أمجد توفيق والصادرة عن دار فضاءات، واحدة من الروايات العراقية التي أرشفت أكثر مراحل حياتنا سوداوية وخراباً، أرشفت وصوّرت مشاعر وانفعالات انسانية متداخلة على نحو يتيح للقارئ الانسجام مع تسلسل الحدث الروائي الذي بناه المؤلف بـ 668 صفحة من القطع المتوسط.. وحتى يتيح للقارئ محطات استراحة؛ وتوقفات منتظمة؛ عمل على تقسيم عمله الابداعي الى ثمانية وخمسين فصلاً..
ينطلق العمل الروائي من لحظة وقوع الكارثة، لحظة احتلال مدينة الموصل مركز محافظة نينوى من قبل تنظيم داعش الإرهابي.. وقد يبدو للقارئ أن ثيمة الحدث الروائي سبق وان تم تداولها في الحقل الأدبي والدرامي.. إلا أن المؤلف اعتمد على صناعة عمل روائي مغاير جذرياً عن المطروح والمتداول.. وانشغل بالهم الإنساني معتمداً على ثنائية الحب والحرب من خلال نسج زاوية مغايرة للحدث... ورسم حكايات متشعبة.
تتناول الرواية حياة عائلة موصلية كتب لها التشظي والتشتت والانقسام بحثاً عن الحياة.. لتكون شهادات واقعية منسوجة بالخيال، شهادات توثق ما مرت به المدينة بعد ان اجتاحها وباء التنظيم الإرهابي (داعش)..
مفارقات غريبة اشتغل عليها المؤلف معتمداً على تقنيات اسهمت باشراك القارئ بتوقع القادم بوصفه شاهداً أو شريكاً للازمة..
تعدد الشخصيات وتشعب المشاهد والأحداث جعل من كل شخصية صالحة لأن تكون شخصية رئيسة بالحدث الروائي.. خصوصاً وإن المؤلف عمد الى ربط الأحداث على نحو شيق بنمط مشدود.. مما جعل القارئ يفتش بالحروف التي نسجها المؤلف بحثاً عن حلول للأزمات الانسانية المتلاحقة التي اشتغل عليها المؤلف..
ما بين الموت المجاني والواقع المأزوم والانكسار العام الذي لحق بنفسية المواطن الموصلي، والبحث عن حياة تكمن بالفرار من موت محتم.. أيقن الحاج إسماعيل الأصيل ضرورة ترحيل النساء والأطفال الى خارج المدينة.. وهو الأمر الذي خلق استنكاراً في نفوس أولاده الأربعة (جلال، سعد ، أحمد ، محمد) وكان إصرارهم على أن يكون الحاج اول المغادرين.
وافق الحاج على مضض خصوصاً بعد مغادرة أخيه إبراهيم وعائلته الى أربيل..
لم يبق سوى ابنه الاكبر جلال وهو الذي يلعب دور الأب في غيابه في إدارة وتصفية أعماله التجارية فضلاً عن إضاءة الجانب الانساني بهذه الشخصية التي يبرز دورها في دعم المقاومة ضد داعش سراً... بقي جلال في الموصل مع أخيه سعد وهو بطل من طراز آخر فهو انشقاق واشغال إيجابي للقارئ بمخطوط مذكرات يعثر عليه صدفة يعود الى والد جده لأبيه وهو الأمر الذي يجعله سجين أسرار وألغاز تتطلب التحليل..
مقدمة الرواية كانت بمثابة استعراض موجز للواقع الموصلي في تلك المرحلة.. إلا أن دخول شخصية (بهار) الايزيدية المغتصبة الهاربة من معتقل داعش والتي أراد المؤلف عرض خصوصية أحداثها امام القارئ بتفصيل مأساوي واقعي لتكون شاهداً على ابشع جرائم التاريخ البشري..
كانت أحداث هذه الشخصية مستوحاة من مأساة النساء الآيزيديات اللاتي آسرهن واغتصبهن وباعهن وتاجر بدماء عوائلهن تنظيم داعش الارهابي..
شخصية بهار اختصار لألم لا ينسى ووصمة عار سجلها التاريخ الانساني.. وخلق هذه الشخصية في الربع الاول من الرواية وزجها مصادفة في طريق (سعد) العالق في أزمة تشظي عائلته يعني خلق أزمة جديدة تضاف الى أزمات لا تنتهي في الرواية..
تتنقل الأحداث ما بين الموت والحياة.. فتارة تحترق بمشاهد الموصل التي سيطرت عليها العتمة وتارة أخرى تخمد حرائق الروح من خلال شخصية سيف بن الحاج اسماعيل الاصيل، الاعلامي المهني ومدير قناة اعلامية مشبوهة التمويل.. تلك الشخصية التي تشكل بوصلة هذا العمل..
سيف شاب مثابر مهني من جانب، وعابث وعاشق لنساء لسن بعيدات عن حياته العملية (نور ، ندى ، ليلى ، آسيا، سوسن)..
تلك الشخصية تدير أحداث الرواية على نحو يخدم الفكرة الرئيسة.. ووصف شخصية سيف بالبوصلة يعني إن المؤلف أراد من الشخصية وعلى نحو واضح أن تسيطر وتمثل الحل داخل مشاهد الرواية..
كان يشكل الفيصل في الكثير من المشاهد فهو الذي اسهم من خلال علاقاته بضابط امريكي (ستيوارت) بالمحاولة الامريكية لتهريب (بهار) من الموصل.. ومن خلال الضابط نفسه تمكن من استحصال موافقة الهجرة لـ (نور وندى) وهو من عمل على تهريب جلال وسعد من خلال عمله مع المجاهدين ضد داعش.. فضلاً عن احداث متشعبة اوكل المؤلف لهذه الشخصية إدارتها..
لا اود الخوض باستعراض شخصيات ومشاهد الرواية بقدر ما اريد ان اوثق قراءة نقدية عنها.. بوصفها رواية هامة يشكل الزمن فيها عنوانها الفاعل (الساخر العظيم) ذلك ان الزمن هو القادر الوحيد على السخرية من هذا الواقع الكئيب..
هذه الرواية بمثابة روايتين متداخلتين تتحدث الاولى عن النقطعة السوداء التي لوثت ربيع الموصل الدائم.. واحالة سمائها الى سخام كما يصفه المؤلف.. فيما تتحدث الثانية عن الغاز الارث والمخطوط التاريخي للجد..
الساخر العظيم عمل ابداعي متكامل، يصعب الكتابة عنه، لما فيه من زحم من الاحداث التي يصعب نسيان أو تجاهل أي جانب من جوانبه.. ذلك إن المؤلف لم يسهب في الكتابة الابداعية لا بل ووظف بعض المشاهد التي مالت الى كتابة التقرير الصفحي وجعلها على لسان شخصية الاعلامي..
الساخر العظيم... تشكل ورقة إدانة لقوى الظلام والارهاب.. مثلما تشكل ذاكرة مؤلمة للوجع الذي اجتاحنا جميعاً..
إن عظمة السخرية في هذه الرواية تكمن في إدانة الواقع المتردي الذي اجتاح المدينة والأمل في تجاوز هذه المحن دون الإنكفاء على اليأس والإحباط..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram