طالب عبد العزيز
كلما حاولت النأي بنفسي عن الخوض في مخاضة السياسة القذرة، أجدني منجذباً اليها، ويوماً إثر آخر أزداد يقيناً بأن قروح البلاد هذه لا تعالج بالشعر والموسيقى والسينما والمسرح وغير ذلك، هناك جلد خشن بحراشف يغلف الروح العراقية اسمه الدين والطائفة والقبيلة، لم تنفع معها أعمال السياب الشعرية الكاملة ولا الرصافي بكتابه (الشخصية المحمدية) وخابت ظنون ناظم الغزالي ومائدة نزهت ورضا علي وحسين نعمة وياس خضر وفؤاد سالم، وعجزت النخلة والجيران وأخفقت فتوة فاضل خليل وعينا سعاد العطار وعود منير بشير، مثلما أخفقت أعمال جواد سليم وفائق حسن وضياء العزاوي.... وأكاد أجزم بأن الاعمال الفنية والثقافية والفلكلورية وجهود الجامعات والمعاهد والمسارح والتظاهرات، ومعها كل حراك انساني لم تغير شيئاً في المجتمع العراقي. بل نحن من تخلف الى تخلف، ومن نكوص الى نكوص.
منذ عشرات السنين وجمهور الثقافة ينحسر وتتراجع قيم المدنية وينحدر الذوق العام، ويخفق أي فنان، شاعر أو مفكر في ترك بصمة وعيه ورؤاه في جمع من مئة مستمع، داخل قاعة صغيرة، فيما يتحلق المئة والآلف حول خطيب من الدرجة العاشرة في مسجد على أطراف الصحراء، وستكون الدقائق العشر حاسمة عند الكائن هذا في إمرتهم وتحريكهم بأي اتجاه يريد، فيما تعجز أي قوة مدنية، حضارية، ثقافية في مدننا كلها من الموصل الى البصرة عن توحيد شعبنا والخروج به، مطالباً في تصحيح قضية مصيرية في حياته (الانتخابات) مثالا، لكن (مُلّا) بعمة سوداء أو بيضاء أو شيخ قبيلة من أراذل الخلق سيكون قادراً على الخروج بالألف والالفين من اتباعه وتحديد المسار الذي يريده. أعتقد أن من يركض بكل وجدانه وراء هؤلاء سيكون مادة أولية للسلب والنهب والقتل، ولن تكون قضية مثل الحياة والامن والمستقبل ذات قيمة في سعيه. الملايين تلك لا تنفع معها الموسيقى ولن تفعل قصائد مظفر والسياب وسعدي وسرجون في نفسها شيئاً، وأجزم أنهم سيركلون بأقدامهم وسيبصقون على أهم عمل فني، بما فيه آثار أجدادهم في سومر وبابل وآشور إذا تقاطع الامر مع شيء من أبسط ما يقدِّسون.
أثارت صورٌ المجمع السكني، التابع لشركة نفط صينية، في صحراء الرميلة بالبصرة ردود أفعال لدى أوساط المواطنين، فقد كانت المنازل -بما عليها من البساطة- أنيقة وجميلة في شوارعها وازقتها وبنائها وحدائقها وألوانها، فحركت شجونهم وهموهم، وقد تساءل البعض منهم عن إمكانية قيام الحكومة ببناء ما هو أجمل لهم، وهنا يقفز الى الذهن السؤال التقليدي، ماذا لو كان المجمع السكني هذا خالصاً لعراقيين، أيظل على الاناقة والجمال ذاك؟ سيجمع معي المئات على الإجابة بلا. ذلك، لأن الكثير منهم سيشتري أبقاراً وطلياناً ويعمل لها زريبة في الفسحة الخضراء التي أمام البيت، فالعشب في يقينه ليس للزينة، هو حشيش وعلف للحيوانات، والفضلات سماء ووقود، وهكذا سيفتح غير واحد ثغرة في سياج البيت ليخرج علينا بدكان صغير، وسنجد علب المياه والأيس كريم الفارغة تتطاير حوالي الدكان لتقذف الريح بها في فضاء الرميلة كلها، وفي بحر أسابيع لا أكثر، ستتبدل صورة المجمع السكني. هل ستغير الأطنان من كتب الشعر والرسم وآلاف الأسطوانات من طبيعة هؤلاء، أين هم مما في رؤوسهم عن الدين والطائفة والعشيرة؟ تقول حكمة صينية:" إذا كان لديك رغيفان، بع إحداهما واشتر بثمنه باقة ورد".