TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > منطقة محررة: عن الحرية التي لا تعرف الحدود

منطقة محررة: عن الحرية التي لا تعرف الحدود

نشر في: 26 يونيو, 2018: 05:43 م

 نجم والي

كثيراً ما يُواجه الكتّاب المنفيون بالسؤال عن سبب مغادرتهم لبلدانهم هل كانوا مجبرين، أم فعلوا ذلك بمحض إرادتهم، والإلحاح بالسؤال يزداد، خاصة في حالة الكف عن وجود الأسباب التي قادت إلى نفيهم، نهاية الديكتاتورية مثلاً التي كانت وراء نفيهم، أو شيخوختهم أو غيرها من الأساب، وإذا كان لا يؤدي خروجهم أو إصرارهم على البقاء في المنفى، بالنتيجة إلى فقدان ذاكرتهم ونسيانهم لتلك الأماكن الحميمية التي عاشوا فيها سنوات طويلة، ويجعل كتاباتهم تفقد حرارة وألفة ذلك الذي مازال يعيش في داخل الأوطان التي تركوها وراءهم أو الأوطان التي لفظتهم، مثلما تفقد مواقفهم القدر نفسه من مصداقيتها. لا أبالغ القول إذا ما ذكرت هنا، أنه منذ قرننا الماضي وحتى الآن ولم يمر على كاتب ما، مثل هذا السؤال، بغض النظر عن جنسية الكاتب ودوافع خروجه، إذا كان منفاه إجبارياً أم اختيارياً. فكم هو عدد المبدعين الذين أُتهموا بالخيانة بسبب مغادرتهم لأوطانهم، منذ الإيطالي صاحب الكوميديا الإلهية دانتي مروراً بالبولندي الذي كتب بالإنكليزية صاحب قلب الظلام جوزيف كونراد والإيرلندي صاحب صورة الفنان في شبابه وناس من دبلن جيمس جويس والكولمبي صاحب مائة عام من العزلة غابرييل غارسيا ماركيز والبرواني صاحب المدينة والكلاب ماريو بيرغاس يوسا والتشكي صاحب خفة الكائن ميلان كونديرا وووووو ... وآخرون غيرهم.
ومهما كانت التخريجات التي يدعي واضعو الأسئلة ذاتهم التوصل إليها، الذين هم عادة مهتمون بالسياسة أكثر منه بالأدب، أو فضوليون يثرون استفزاز الكتّاب بسؤالهم، أو علماء أدب يرغبون بالمعرفة، لا يهم ماذا يكونون، لأنهم جميعاً في المحصلة يتفقون على أمر واحد: أنهم لا ينظرون للكاتب من خلال ما يكتبه من نصوص، نثراً أم شعراً، إنما يقيمونه من خلال المكان الذي يعيش فيه، أو من خلال موقع "غرفته".
تلك النظرة الضيقة تقود البعض الذين ينظرون نظرة مريبة للكاتب الذين يعيش خارج بلاده أن ينتهوا إلى فكرة ساذجة تقول: من الصعب على الكتاب المنفيين الكتابة عن "أوطانـ "ـهم بسبب ما معناه معضلة استيعاب الكاتب الروائي للحدث الروائي التاريخي التي تحتاج بين ما تحتاج إليه إلى فترة زمنية للنضوج معرفياً ونفسياً، لهذا السبب ولغيره من الأسباب الساذجة ربما من الأفضل للكتاب أن يكتفوا حاضراً بالكتابة عن المنفى، وأن اية كتابة عن الوطن هي تركيب من الغرائبية أو العجائبية، وفي أحسن الأحوال واقعية سحرية لا حاجة للناس لها.
يغيب عن هؤلاء السؤال الأكثر أهمية: هل الخروج إلى المنفى يعني بالضرورة توقف ذاكرة ومخيلة الكاتب في الكتابة عن "هناك" وعليه فقط الكتابة عن المنفى؟ لا أظن أن من الصعب الإجابة على هذا السؤال ببساطة وبدون حرج: كلا. أولاً: لأن الكتابة الجميلة نثراً أو شعراً هي كتابة عن الإنسان المنفي حتى وإن كان الكاتب يعيش في ما يُطلق عليه "الوطن"، الذي هو أصلاً اصطلاح سياسي أكثر منه إبداعي، إصطلاح اخترعته الناس لنفسها لكي تشعر بالإلفة مع المكان الذي تعيش فيه، أو لكي تبرر موتها أو إضطهادها من سلطات تبتزها تحت هذه التسمية كل يوم، إذا لا ترسل أبناءهم إلى الحربـ، أو تغتصب بناتهم وهن يافعات. ففي النهاية وطن الكاتب هو اللغة التي يكتب بها، وبيته هو العالم الذي يصنعه من عمله، مثلما هو وطن الرحالة، يكون حيث تطأ قدماه، وليست هناك علاقة قوية بين اللمكان الذي أجلس فيه وأكتب والمخيلة الإبداعية التي لا تعرف مكاناً معيناً أو حدود. الأدب هو أفق مفتوح، هو حرية لا تعرف الحدود.

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram