شكيب كاظم
وأنت تنجز قراءة هذا الكتاب المهم الذي يمتد إلى نحو خمس مئة صفحة، من الذكريات والوقائع والآراء، في الشأن السياسي والاجتماعي العراقي، وعلى مدى أكثر من نصف قرن من الزمان، بدءاً من خريف سنة 1952وإنطلاق التظاهرات الطلابية المطلبية، واستغلال الأحزاب السياسية المناوئة للحكم الملكي لتأجيجها وتحويلها إلى مصادمات مسلحة، ومعارك شوارع واضطرار البلاط لتشكيل حكومة يرأسها ضابط برتبة عالية، أقول بدءاً بسنة 1952 وحتى سنة 2016 وهي مدة طويلة تزيد على النصف قرن زمناً، كان الأستاذ نصير الجادرجي، في قلب الأحداث يوم كان العراق ديمقراطياً يسير على نهج احترام الحريات العامة في التظاهر السلمي الذي كانت تستغله بعض الأحزاب المتطرفة لحرفه عن سلميته لمآرب ضيقة أثبتت الحياة فشلها، إن لم أقل أنها كانت تنفيذاً لتوجيهات وإملاءات خارجية بحجة الأممية، ناسين خصائص الشعوب والأمم، والقفز على حقائق الحياة والأشياء، حتى إذا الغيت كل هذه الطقوس الجميلة في الحياة العامة، التظاهر السلمي، وتأليف الأحزاب، وحرية الصحافة، وسيادة القانون، اعتزل الرجل عالم السياسة وعاش عزلة حتى عام 2003 ليعود إليها نافخاً الروح في الحزب الوطني الديمقراطي، الحزب الذي أسسه أبوه السياسي العراقي المبدئي والنزيه كامل الجادرجي، فضلاً عن الرعيل الأول: يوسف الحاج الياس، وهديب الحاج حمود وحسين جميل، ومحمد حديد وقاسم حسن وغيرهم، يحاول إعادة الحياة لهذا الحزب المؤثر في الحياة السياسية العراقية في العقود التي سبقت سنة 1958، إذ ركب الناس رؤوسهم راكضين وراء صاحب المزمار السحري، مغادرين العقل والنظر وحسن التدبر.
أقول وأنت تنجز قراءة كتاب ( مذكرات نصير الجادرجي. طفولة متناقضة... شباب متمرد. طريق المتاعب) لتحار وأنت تنوي تقديمه للقراء، كي يأخذ مكانته الجديرة به، والجدير بها لتحار من أين تبدأ في هذا الخضم من الوقائع والحوادث، التي تأخر الأستاذ نصير طويلاً في تدوينها، ووضعها بين أيادي الباحثين والقراء، لإضاءة جانب مهم من الحياة العراقية، في حين غادر بعضهم الدنيا، ولم يتركوا لنا تجاربهم وآراءهم على الرغم من الإلحاح عليهم في إذاعتها بين الناس، ويحضرني هنا السيد ناجي طالب، آمر اللواء الخامس عشر، ومقره مدينة البصر قبل تموز 1958، وأستيزاره للشؤون الاجتماعية في أول وزارة جمهورية، فضلاً عن شغله وزارة الخارجية ورئاسة الوزراء في عهد الرئيس عبد الرحمن عارف – رحمه الله-.
وأنا أقرأ الكتاب – وهذا أمر التزم به في كل ما أقرأ من كتب- كنت أدون ملاحظاتي كي تكون لي معيناً عند الكتابة، فضلاً عن الحواشي التي أدونها على الكتب التي أقرؤها، ولأقف عند بعض الحقائق التي يجب تدوينها والوقوف عندها، فما أحرانا بتدبرها، ومغادرة تعصبنا إذا أردنا أن نحيا الزمن الذي نحن فيه، واضعاً في الحسبان، نزاهة رأي الأستاذ نصير وحياديته وتقديمه حقائق الأمور كما حصلت، وليس كما يريد أن تحصل، فاحترامك لآرائك لا يعني عدم احترام آراء الآخرين والحقيقة.
تقرأ في الكتاب، فتلمس الحرية الواسعة، واختلاف الرأي واحترامه، لا بل تصل إلى حد الملاسنة مع رأس الدولة والحكم، وأعني الملاسنة مع الأمير عبدالإله بن علي وتحديه، يحدث أن يدعو الوصي على عرش العراق، خريف سنة 1952، إثر التظاهرات الطلابية، وتقديم ثلاثة أحزاب علنية هي: الحزب الوطني الديمقراطي برعاية الأستاذ كامل الجادرجي، وحزب الاستقلال برئاسة الشيخ محمد مهدي كبة، وحزب الجبهة الشعبية، الذي تولاه الفريق طه الهاشمي، مذكرة إلى الوصي، الذي يطلب –على إثرها- عقد اجتماع واسع حضره كبار رجال الدولة وقادة الأحزاب الثلاثة، عقد في البلاط الملكي، الذي هدم بداية ثمانينات القرن العشرين، ليبتنى على أنقاضه نادِ للضابط القادة! تحصل ملاسنة بين السيد طه الهاشمي الذي أوضح إن تشكيل الوزارات جميعها يحصل بتأثير مباشر من البلاط، وموجهاً الاتهام للوصي مباشرةً، فتأزم الوضع، خرج الوصي برهة ليعود متشنجاً، وهذه رواية- الأستاذ كامل لنجله نصير- قائلاً إن الأسرة الهاشمية قد ضحت بالكثير لأجل العراق، وقد تركت ديارها في الحجاز من أجل شعبه، خاتماً الوصي حديثه مخاطباً الهاشمي – أنت تكذب. مكرراً الاتهام مرات عدة فأجابه طه الهاشمي قائلاً-إنني شخص شريف ولا أكذب، وإذ همَّ بالخروج من الجلسة، أمره الوصي بعدم المغادرة، وهنا يحثه الأستاذ كامل وعلى مرأى من الجميع ومسمعهم على المغادرة، ويتضامن معه أستاذ كامل، وهنا كي يتفادى الوصي الإحراج، فيهتف بكامل، أنت أخرج أيضاً، وكأنه هو الذي أمره، هنا يعود أستاذ كامل مواجهاً الوصي قائلاً له:
- ليس أنت من تأمرني، فأنا الذي خرجت بملء إرادتي... وخرج تنظر ص52-ص53.
هل الأمر بحاجة إلى تعليق؟ أظن أن هذه المروية التي جاءت على لسان الأستاذ كامل- وهو صادق في كل ما قال- تُسكت كل تعليق، كما أسكتت جهيزة كل قول!
وتتأزم أحوال البلد، وعودة لأسباب هذه التظاهرات التي تحولت إلى اشتباكات مسلحة ضد قوات الأمن والشرطة التي كانت تحاول إعادة النظام والاستقرار، والتي استغلتها الأحزاب المتطرفة كما يؤكد الأستاذ نصير ذلك مدوناً " فحدثت اصطدامات استغلتها الأحزاب السياسية ومنظمات الطلبة وانتشر الإضراب بين الكليات والمدارس الأخرى" تراجع ص 58.
الأسباب بسيطة، إذ أن (كلية الصيدلة والكيمياء) في بغداد، أدخلت تعديلات نصت (على الطالب المعيد إعادة كافة مواضيع الصف الذي رسب فيه)، وهذا التعديل – كما أرى- يهدف إلى زيادة مستوى الطلبة العلمي، وتفوقهم لكن الذين في قلوبهم مرض استغلوه فأشعلوا البلاد، وأشغلوا العباد، وإذ تحولت التظاهرات السلمية إلى رشق الشرطة بالحجارة ووفاة أحد ضباطها متأثراً بجراحه، فضلاً عن استخدام الأسلحة البيض وغيرها، فكان يجب وضع حد لها، لكن الدولة الدستورية المدنية كيف تعالج ذلك، ورئيس أركان الجيش الفريق نور الدين محمود – وهو عراقي كردي- الذي أمر بإنزال قواته إلى الشوارع لتثبيت الأمن، يطالب بتخويله إطلاق النار على من يطلقها على جنوده،؟ هنا تثور الأزمة القانونية في الدولة الدستورية، بشأن من يملك صلاحية إعطاء الأوامر للجيش بإطلاق الرصاص على المتظاهرين " فمتصرف لواء بغداد- كما يدون الأستاذ نصير- بحسب قانون اللواء لا يستطيع إعطاء هذا الأمر لوجود الأعلى منه وهو وزير الداخلية، كما بين وزير الداخلية ووكيل وزير الدفاع، إنه لا يستطيع إصدار أمر كهذا من دون إذن رئيس الوزراء، واضعين في الحسبان، أن الوزارة استقالت وأمسى هناك فراغ دستوري، إزاء هذه المعوقات القانونية، التي كانت محترمة، يعبر (الوصي) عن رغبته بإصدار الأمر إلى رئيس أركان الجيش، لكنه يستدرك إنه (قانونيا) لا يستطيع ذلك بصورة مباشرة لأنها من صلاحيات رئيس الوزراء أو وزير الداخلية، يؤكد الأستاذ نصير "وكانت كل تلك الصعوبات القانونية، قد ظهرت حين كان السيد (نور الدين محمود) رئيس أركان الجيش ينتظر الأمر للعمل. تراجع ص 69.
وإذ يقدم وزير الداخلية السيد سعد قزاز- وهو كردي عراقي أيضاً- إلى المحكمة العسكرية العليا الخاصة، ورئيسها العقيد – ميرة وتموين- فاضل عباس المهداوي، الذي لم يدرس الحقوق والقانون، فضلاً عن غالب أعضائها وعددهم أربعة، وحكمت المحكمة عليه بالإعدام شنقاً حتى الموت، ينقل الأستاذ نصير تعليق أبيه على الحكم الجائر قائلاً: كان يجب أن لا يحكم بالإعدام بسبب موقفه من فيضان 1954" تراجع ص 79.
ولتوضيح هذا الموقف الجريء، أقول: كانت بغداد على وشك الغرق، ولاسيما جانب الرصافة نهايات شهر آذار من عام 1954، لزيادة مناسيب مياه دجلة، يوم لم تكن تركية قد بنت سدودها العملاقة، ولاسيما سد أتاتورك ونحن منشغلون بالمشاكل والصراع، استقر الرأي على نقل الشيوخ والنساء والأطفال من الرصافة إلى الكرخ لارتفاع ارض الكرخ، ولكن الوزير المهني الشجاع كان له رأي آخر، إن هذا الأمر سيحدث فوضى ونهب وسلب، الوزير يسأل خبير الري، عن نسبة الغرق، فيجيبه ثمانون بالمئة، وقرأت في أماكن أخرى إنها خمس وتسعون بالمئة، ولا أدري مدى صحة الرقم، ويقرر الوزير، تحمل المسؤولية، وإبقاء الناس في منازلهم مع الاستعانة بالجيش والمتطوعين من المدنيين وكان نصير أحدهم، ويدرأ الله الخطر عن بغداد، وتبدأ مناسيب دجلة الهائج بالانخفاض، ويحصل نصير على نوط الفيضان، فضلاً عن الشباب الآخرين جراء جهودهم في درء الأذى عن عاصمة بلدهم.
من صور النزاهة والإخلاص والصدق مع الذات، ما يدونه الأستاذ نصير في مذكراته يوم تقرر إجراء الانتخابات النيابية بعد انحسار جانحة الفيضان، ويرشح الأستاذ كامل عن المنطقة الثالثة، محلة الفضل وما جاورها، وكان من الواجب زيارة المحلة، والألتقاء بأهلها، لكن كاملاً يمتنع عن ذلك، عاداً هذه الزيارة ضرباً من ضروب الرياء، لأنه لم يزرها في الأيام الاعتيادية، لكن مع إلحاح الأستاذ حسين جميل وبقية أركان الحزب الوطني الديمقراطي يوافق على الزيارة، على ان يتولى وجهاؤها توجيه دعوة له لزيارة المنطقة، فيلبي الدعوة وكان عرساً انتخابياً، وإذ يفوز الأستاذ كامل، فيقرر إيلام وليمة فاخرة في دارته بشارع طه، استمرت يومين.
هنا يؤكد الأستاذ نصير على ان أباه "شدد على إقامتها بعد الانتخابات وليس أثناءها أو قبلها". تراجع ص103.
وإذ كان للسيد نصير دور كبير ومؤثر في أحداث خريف 1952، فيصدر إمر إلقاء قبض عليه، وتفتيش غرفته فقط احتراماً للدار وساكنيها، بعد اصطحاب مختار المحلة، وهنا تقوم إشكالية أخرى، إذ لا يجوز تفتيش أي دار في الدولة الدستورية من غير حضور المختار، فيحل المعضلة، راغباً في دعوة أحد أبناء المحلة لمرافقة المفتشين ولإضفاء صفة الشرعية، على عملية التفتيشّ! تنظر ص 135-136.
وإذ يورد لنا الأستاذ نصير حكايات، يؤكد أن علينا أن نكرر استذكارها لتبقى شاهداً على العصر، وأخلاق الناس الطيبة يومذاك، فأنا أود ان أقدم للقراء خلاصة لهذه الحادثة الفريدة، يحصل أن يعتقل المحامي مظهر العزاوي، الذي سيصبح نقيباً لهم في سنوات تلت، يعتقل إثر تظاهرات سنة 1956في معتقل بمعسكر السعدية، وكان مستأجراً داراً تعود للفريق طه الهاشمي، أحد رؤساء الوزارات الملكية، وشقيق ياسين الهاشمي، الذي أطاح بوزارته انقلاب بكر صدقي في تشرين الأول 1936، المحامي مظهر يخبر زوجته أن حان موعد دفع قسط الإيجار، طالباً منها إيصال مبلغ الإيجار للسيد الهاشمي، وإذ تلتقي به يخبرها أنه متعاقد مع أبي أولادها، وليس معها، لذا لا يحق له استلام المبلغ!، وإذ يطلق سراح الأستاذ مظهر فإنه يذهب لزيارة الهاشمي وتسلميه المبلغ، لكن الهاشمي، وياللأخلاق العالية، يقول له:
-هل أعتديت عليك يوماً من الأيام؟
فيجيبه مظهر عفواً باشا.
- إذن لماذا تعتدي علي؟ وتطلب مني أن آخذ مبلغ الإيجار عن أشهر اعتقالك فأنا لم أسهم معكم في المعركة الوطنية، فلماذا تريد أن تحرمني من هذه المساهمة البسيطة؟". تنظر ص 156.
وها هو متصرف لواء بغداد، عبد الجبار فهمي، والذي كان مديراً لشرطة العاصمة وعرف بولائه للأسرة المالكية، وسيعدم في العهد الجمهوري بقرار من المحكمة العسكرية العليا الخاصة، وينفذ الحكم فيه في 20/ من أيلول/1959، مع ثلة من الضباط والمدنيين، أقول: ها هو متصرف لواء بغداد، يستخدم صلاحيته الواردة تحت بند (المحظور الإداري) يوم علم بأن دار كامل الجادرجي عُرِضَت للبيع، لأنه رَهَنَ الدار لدى مصرف الرهون لشراء مكائن طباعة حديثة لجريدة الحزب الوطني الديمقراطي (الأهالي) ولم يتمكن من سداد المبلغ، وإذ يعلم عبد الجبار فهمي المتصرف بذلك في أثناء جلسة في فندق سمير أميس بشارع الرشيد، فأوقف هذا الإجراء قائلا: رغم اختلافي مع السيد (كامل الجادرجي) كونه زعيماً للمعارضة، لكن من غير اللائق أن تنشر الصحف إعلاناً يقضي ببيع منزله!. تنظر ص297.
في حين قام طلفاح، الذي عين متصرفاً للواء بغداد، قام سنة 1969 بالإشراف شخصياً، صحبة بلدوزرات لهدم منزل الأستاذ نصير، الذي كان ابتناه في سنوات سابقة على الأرض التي استأجرها من وزارتي المالية والإصلاح الزراعي سنة 1964، لمدة خمس عشرة سنة في منطقة الفحامة شمالي بغداد، وصمم المنزل شقيقه المهندس المعماري الحاذق رفعة بما فيه من أثاث وركائز (أعمدة بغدادية) قديمة كان يعتز بها كثيراً، إزاء هذا يؤثر الانزواء بعيداً عن الأضواء متفرغاً لشؤونه الشخصية، سواء بممارسة (المحاماة) أم في العمل الزراعي، أم المشاريع الصناعية، تنظر ص304-307.
وإذ تتغير الدنيا ويدال بصدام، ويلقى القبض عليه في 16/12/2003، ويدعوه الحاكم المدني الأمريكي (بول بريمر) وثلة من قادة العهد الجديد لرؤية صدام في معتقله، يقول الأستاذ نصير "بعد نقاش مع الذات، اتخذت قراراً بعدم الذهاب لرؤية صدام في سجنه، لأنني لا أريد أن أكون متشفياً به، وهو في هذا الوضع" تراجع ص378.
وهذا هو السلوك الصائب الذي يعف صاحبه عند المغنم وعن المغنم.
وإذ يذكر الأستاذ نصير في مقدمة كتابه هذا مقولة رائعة، لم ينسبها لأحد مفادها "إني رأيت أنه لا يكتب إنسانٌ كتاباً في يومه، إلا قال في غده لو غيَر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدّم هذا لكن أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر"، وهذا القول الجميل موضع خلاف في نسبته، فبعضهم ينسبه للقاضي الفاضل( 526-597هـ) وزير صلاح الدين الأيوبي وكاتبه، وآخرون ينسبونه لعماد الدين الأصفهاني(519-597).