فوزي كريم
من رسالة لشابة في مقتبل العمر
العزيزة ...،
تمتعتُ برسالتك وحكاياتِها. ما أروعَ تنوّعِ الخبرةِ المؤلمة فيها. الكثيرُ منها يبدو رمادياً، أنا أعرف: مشقاتٌ مع الأهل، مع الأم وعلّتِها القلبية، مع الأخواتِ، فقدانُ هدفٍ، محاولةُ انتحارٍ، منفىً تهجيريٌّ. كل هذا على خلفيةِ حرائق الحربِ الأهلية التي حطّمت مفاصلَ البلد. ثم أنتِ، التي تقطَعُ مرحلةَ المراهقةِ لأولِ الشباب. نعم، سيبدو كلُّ ذلك بلون الرماد حين يؤخذُ تفصيلةً تفصيلة. الشاعرُ لا يكتبُ قصيدتَه كلمةً منفردةً عن كلمةٍ تليها. الموسيقيُّ لا يسجل النوتةَ مستقلةً عن أختها النوتة، وكذلك الرسامُ، وطباخُ طبق البرياني.
مات أبواي وأنا في سنِّ المراهقة. أرغمتنا السلطةُ الشمولية على التخلّي عن بيوتنا الصغيرةِ الوديعةِ المحاذيةِ للنهر. الأمرُ الذي أرغمني، وأنا في مطلعِ الشبابِ المبكر، على التشردِ والعيشِ في غرفِ الفنادق الرخيصةِ والبيوت المبتذلة. جرّبتُ التدريس بعد التخرج لأشهر، فوجدتُني لا أصلحُ لوظيفة. مانعٌ عصيٌّ في مجرى الدم. ثم تركتُ كلَّ المشهد وراء ظهري وهاجرتُ إلى بيروت. هناك وجدت تشردي يأخذُ صياغةً جديدة. كان تشرداً أفقياً، وأصبح عمودياً. كان رحيلاً خارجياً وأصبح رحيلاً داخلياً. كان موضوعاً أحدق فيه، كما لو كان شيئاً ملحقاً بي، وأصبح الذات (ذاتي) التي اكتشفتها بفضله. بعد سنتين ونيف رجعتُ بفعل ارتجاف الثقة بالنفس والوسوسةِ خائباً إلى بغداد. رجعتُ وأنا مُلحقٌ بالخمرة، تدّعيني ولا أدّعيها. تمنحُني حقَّ الحياة إلى أن أصحو كياناً مُستلَباً من كلِّ حق. كنتُ أرواحُ في وحلِ زمنٍ أملتْه سلطة البعث على الأجساد والأرواح والعقول. وعلى حافةِ إنهاكي ألقيتُ نفسي في هاويةِ منفى جديد. وكانت لندن، التي بدأتْ تعيدُ صياغتي برعايةِ أم. ولكن القدرَ لم يُمهلني فأوجعَ قلبي بصورةٍ كادت أن تكون مميتة. تزوجتُ ولم أنجح. عاركتُ لندنَ في السنوات الأولى لأني كنتُ عصياً على رعايتها، نافراً من هدايتها. إلى أن بدأتُ أستعيدُ ذاتي ثانيةً ولكن بلياقة العارف. استعادةُ الذات العارفة، بفعل حريتها الداخلية، وضعتْ خطوتي بيسرٍ على الطريق. من لم يكتشف ذاتَه عادة ما يُسلمُ خطاه لطريقٍ قد يبلغ انحرافُه الميليمترَ الصغيرَ عند البدء. لكن انحرافَه يتسع كلما خطا، ويستعصي على الاستقامةِ كلما ابتعد. اكتشافُ الذات يجعل البصرَ "بصيرةً". وصاحبُ "البصيرة" لا ينتفعُ إلا من المصائبش التي يُمليها عليه داخلُه، وتُمليها عليه الحياة. ولذا احتفتْ ذاتي العارفة بكل ما لحقني من أشباح الماضي المُشبع بالمصائب؛ ألتفتُ إليها كمن يلتفتُ إلى حقلٍ لا ينفدُ حصادُه.
البصيرةُ أعلتْ من شأنِ البديهة. البديهةُ تضعُ المتعةَ والفائدةَ والجمالَ والنبلَ والهارموني .. هدفاً لكلِّ فكرٍ ولكلِّ فعل؛ بدءأ من الحديث مع النفس ومع الآخر، وبدءأً من صياغةِ الجملة في الشعر أو النثر، أو قراءتها في الشعر والنثر، وبدءاً من ضمانة الحميمية في العلاقةِ بين الفكرِ والسلوك، والنصِّ والمعنى، وبدءاً من التعاملِ مع النفسِ ومع الآخر ومع الحياةِ ومع الموت... وبدءاً.. حيث لا منتهى للبدء.
أنتِ الآن، مثلي الذي كنتُه، لكِ حقلٌ لا ينفدُ حصادُه. كلُّ نبتةٍ منه تبدو لعينِكِ المتعبة رماديةً. تخلَّي عن النظرِ إلى حقلِكِ هذا نبتةً نبتة. أتركيه يشكِّلُ مشهداً على مبْعدةٍ، وسترين كم تتزاحمُ فيه الألوان.
اكتشافُ الذات العارفةِ الحرةِ يبدأ من الشك في الذات. وتحوّلُ البصرِ إلى "بصيرة" يحتاجُ إلى معانقةِ الآلام بحميميةِ من لا يثق بالإجابات. الأسئلةُ وحدها اللائقةُ بالبصيرة. جراحُكِ، دراستُك، موسيقاك، رسمُك، كتابتُك... كلُّها توائم. يجب أن تكون ولادتُهنَّ، داخلَ كيانك، في لحظةٍ واحدةٍ من زمنك الداخلي. ومع الأيام ستلتحقُ بهنَّ حياتُك العائلية، حياتُك الاجتماعية، علاقتُك بوطنك، علاقتُك بمنفاك، تعاملُك مع ذاتك، مع الآخر ومع الحياة، تذوُّقك للتفاحةِ في فمك، وللكلمةِ على لسانك، أو في الكتاب، تأمُّلُك في الطبيعة أو في الانسان، أو الكون. ثمة هارموني ينشط مع يقظة الذات، ومع يقظة البصيرة. وثمة "جدية" تتعلق بأذيالهما حيثُ حلّا وحيثُ ارتحلا.
سأكتب لك غداً، أيضاً. يجب أن أنصرفَ إلى ساعةٍ مع واحدة من رباعيات بيتهوفن الأخيرة.