نجم والي
لم يمر زمن ولم يكن على العديد من الكتّاب والفنانين اللجوء للمنفى، كان لابد لهم مغادرة الأماكن التي وُلدوا فيها، رغم ذلك، كانوا هم أول من يعرف، أنهم صحيح منفيون "جغرافياً"، بعيداً عن المكان الذي تنفسوا فيه هواء طفولتهم، إلا أنهم كانوا منفيين هناك ـ في "الوطن" ـ منذ وعيهم الألم في البلاد التي وُلدوا فيها وعاشوا، أو لنقل منذ أن شعروا بوجع الرأس ووخزات القلب التي صاحبتهم نتيجة رؤيتهم لحيف الدولة الذي تُلحقه بالإنسان، ورفضهم للإستبداد، للعسف الاجتماعي الذي يُضيف لإرهاب السلطة، الشرعية التي تحتاجها لتحطيم الجمال، وعندما يتحول " البقاء على قيد الحياة" إلى مغزى الحياة الرئيس في بلدٍ ما، كما في حالة الكتاب والفنانين العراقيين في أزمان الديكتاتوريات، بكل ألوانها، فإن جمال هذا البلد يتحول إلى ألم، ويتحول البلد ذاته إلى منفى.
لكي أكون واضحاً أقول: إن المنفى لا يعرف حدوداً، والوجد لا يقاس بمسافة. إنه داخلي وقاتل. موحش. وإن الغربة والمنفى يبدآن حينما يدرك المرء إنه وحيد ومهجور، حتى هو بين أهله وأصدقائه، عندما يضرب بأقدامه ليبحث عن أرض يستند إليها فتفر منه. الغربة تبدأ حين يبدأ القلب بعويله، وعندما يتحول الليل إلى عذاب طويل، والنهار إلى مأزق وشؤم يتربص عند كل منعطف أو زاوية من شارع، عندما لا يعود مكان يتسع لقدمين تقف عليه، بكلمة أخرى: أن المنفى أكبر من أن تعرفه حدود. إنه تهدم الصداقة مع العالم، مع الآخرين. بهذه الصورة يبدأ المنفى أولاً "هناك"، منذ وعي المرء للإبداع أو منذ وعيه للألم، والنفي "الجغرافي" هو تكملته التراجيدية. هو مثل من ختم. طمغة تؤكد ما هو موجود أصلاً. فهل من المبالغة القول في هذه الحالة: أن كل كتابة إبداعية هي في المحصلة إنجاز إبداعي عن "المنفى"، منفى الإنسان الأبدي وغربته، "هنا" و "هناك"؟
عند دراستي للأدب الألماني في سنوات ثمانينيات القرن الماضي في جامعة هامبورغ، تخصصت في البداية بـ" أدب المنفى" الألماني، أولئك الكتاب الذين خرجوا بالعشرات بعد سيطرة الحزب النازي وصعود أدولف هتلر للسلطة في عام 1933، فوجدت أن نسبة الروايات المكتوبة عن " المنفى" الجغرافي لا تتعدى عدد الأصابع. الأمر نفسه ينطبق على الروايات المكتوبة باللغات الأخرى، أو على الأقل تلك الروايات التي أقرأها الآن بلغتها الأصلية ـ الأم ( وخاصة بالألمانية وبالإسبانية). أن معظم الأعمال العظيمة كتبت في المنفى، وليس عن المنفى "الجغرافي"، وهي تتحدث عن فكرة نفي الإنسان الأبدية، لا يهم المكان الذي عاش فيه هذا الإنسان، بل لا يهم الأماكن التي كُتبت الروايات فيه، أنها تحكي عن محنة الإنسان، اغترابه عن المحيط الذي يعيش فيه، لأن المبدع دخل في حلف أبدي مع غائب، وشخوصه يترجمون لغة إنسانية تتعدى الحدود وتسخر من تعريفات القوميين الضيقة، من دعاة الوطنية الزائفة، كل أولئك الذين يتحدثون عن "ثوابت" وهويات ومباديء وأخلاق عامة، هي في النهاية حجارة يعبئون بها مخهم، وهو أمر معروف منذ أزمان طويلة، كلما زاد زعيق هؤلاء، حلفاء السلطة في كل زمان ومكان، كلما أصبح المكان مهيئاً أكثر للمنفى، ففي النهاية، أمام عسف السلطات وطغيانها، ليس أمام المبدع غير أن يختار بين خيانة نفسه أو الصمت، ولأنه لا يريد أن يصمت، يلجأ إلى المنفى، الكتابة هي حرية، ومن يريد البقاء مخلصاً لنفسه، لابد له لابد له وأن ينحاز للحرية، ينحاز للإبداع، لأنه يعرف، أن لا حياة له، دون هذا الإبداع. دون هذه الحرية.