ستار كاووش
لم يكن بوسعي رفض دعوة الذهاب الى جزيرة ترسخيلين الواقعة في بحر الشمال لحضور فعاليات مهرجان (أورول)، فحزمتُ حقائبي وتوجهت نحو مدينة هارلنغن التي تغازلها الشمس على حافة البحر، شمال هولندا. ومن هناك ركبت الباخرة التي شقت المياه تحيطها الأمواج المسننة ذات الحافات البيضاء، وتظللها طيور البحر التي تلألأت مثل قطع نقود فضية تحت أشعة الشمس. ابتعد المركب عن ساحل المدينة التي اخذت تغيب خلفنا ولم يبق منها غير ظلال بيوت رمادية امتزجت مع خط الافق. وبعد ساعتين وصلنا الى الجزيرة، حيث توجهت مباشرة نحو الكارافان الجميل الذي حجزته مسبقاً، وهو عموماً يقع في وسط كامب مليء بالكارافانات والشاليهات والخيم. في الصباح التالي صحوتُ على بعض الاصوات في الخارج، فمَدتُّ رأسي من النافذة وأذا برجل وامرأة يحاولان تركيب خيمتهما بمحاذاة الكارافان، حييتهما وبدأت بتحضير القهوة، التي حال انتهائي من احتسائها، كانت خيمة جيراني جاهزة.
هنا لا يمكن للمرء ان يتحرك بدون دراجة هوائية، لهذا ركبت دراجتي التي استأجرتها لمدة اسبوع، وانطلقت في البداية للتبضع وشراء بعض الأكل والشراب، إضافة الى بعض الأشياء التي احتاجها، كان السوق على مبعدة أربعة كيلومترات، لكن المسافة كانت تبدو أقصر من ذلك بكثير، وذلك بسبب متعة التجول بالدراجة على حافة البحر، والتي لها طعم فريد لا ينسى، حيث منظر صيادي السمك ومراكبهم الشراعية، وهواءً البحر الذي يركض أمامي، وقد اكتسب رائحة الطحالب والقواقع البحرية وسمك الهارنك.
الفعاليات الفنية إبتدأت وغطت الجزيرة كلها. وعليَّ أن اختار البداية التي تناسبني، فتوقفت عند أحد عروض مسرح الشارع، والذي يقدمه ممثلان شابان أحدهما شاعر أيضاً، حيث تجمهر الناس حولهما على شكل دائرة. بعد ساعتين من التجوال، دلفت نحو أحد أطراف الجزيرة، هناك بانت غابة صغيرة بُنِيَ وسطها معسكراً فيه مسارح مفتوحة وأماكن للعروض المختلفة والمطاعم والالعاب والفعاليات الثقافية، حيث حضرت عرضاً مسرحياً قصيراً قدمه ممثلان متشابهان، وقد إستخدما مرآة بشكل مبهر وذكي. بعدها تجولت قليلاً في المعسكر، واذا بفتاة تناولني آلة تسجيل صغيرة مربوطة بسماعات للاذن قائلة ( هذه زاوية الشعر، فهل تود سماع بعض القصائد بصوت الشعراء الذين كتبوها؟) فأجبتها مرحباً وشاكراً لهذه الهدية، واخذت منها التسجيل لاستمع لقصائد بسيطة لكنها في غاية العذوبة وهي تتحدث عن الطبيعة الهولندية وبعض التفاصيل اليومية.
في اليوم التالي ركبت دراجتي وتوجهت الى جانب آخر من الجزيرة، حيث العروض الموسيقية التي تتمايل فوق المسارح التي شيدت مؤقتاً فوق العشب الاخضر. هناك، وأنا أركن دراجتي في المكان المخصص للدراجات، لمحتُ على جانب المكان سياجاً حديدياً صُفَّتْ أو أُحتِجزَتْ بداخله بعض الدراجات، لأن أصحابها قد أوقفوها أو تركوها خارج المكان المسموح به، وبجانب بوابة هذا السياج وضعت منصة صغيرة بحجم الطاولة، وكُتِبَ قربها ( ان كنت تريد استرجاع دراجتك، فغرامتك هي ان تغني هنا اغنية تختارها بنفسك) فرحت لأني قد وضعت دراجتي في المكان المناسب، ثم أنا لا أجيد الغناء أصلاً.
في اليوم التالي، وأنا في طريقي الى الساحل الغربي للجزيرة إجتزت العرض التلفزيوني الذي يُنقَلُ بشكل حي ويتعلق بفعاليات المهرجان، واتجهت نحو موقع آخر لعروض فيها الكثير من التنوع والطرافة، وقد إستهواني المكان كثيراً، فإخترتُ الزاوية الأقرب إلى نفسي، وهي خيمة واسعة مليئة بآلات كلاسيكية للكتابة، مع يافطة كبيرة كُتِبَ عليها (أكتب شيئاً أو قصة صغيرة تتعلق بحياتك، بعدها سنختار من الكتابات الأجمل، لنصنع منها عروضاً مسرحية قصيرة)، وهنا شَمَّرتُ عن ساعدي وإخترتُ واحدة من الآلات الكاتبة ودونتُ على سبيل الطرافة شيئاً عن حياتي لا يتجاوز النصف صفحة.
مضى الاسبوع بسرعة وسط أجواء الموسيقى والرقص والمتعة الممزوجة بالثقافة والبساطة، على حافة البحر،لأعود لمرسمي على متن ذات الباخرة، وقد اخترت مكاني قرب صالة المطعم حيث رائحة السمك المدخن قد إختلطت مع شرابي المفضل، وأنا أتأمل الجزيرة التي أخذت تبتعد شيئاً... فشيئاً وسط زرقة البحر.