TOP

جريدة المدى > عام > ليل علي بابا الحزين .. جماليات سرد التخيّل التاريخاني

ليل علي بابا الحزين .. جماليات سرد التخيّل التاريخاني

نشر في: 8 يوليو, 2018: 06:11 م

خضير اللامي

(1-2)

أنا انطلق في سردي في هذا المقال ، بوصف النص هذا نصاً قابلاً لمحمولات نصوص أخر ، على وفق النظريات الأدبية الحديثة ، التي تَعدُّ النص خارجاً عن مؤلفه في اللحظة التي انتهى من كتابته ؟
وكما يقول أبو علاء المعري : وكل معنى له نفي وإيجاب .."
ويقول جوزيف فراي " إنّ التاريخ استرقاق وحتمية ، ويبقى الأدب هو المكان الوحيد الذي يمكن أن نكون فيه أحراراً .. "

وبداية ، إنَّ هذه المسرودة ، الشهادة ، الذاكرة ، المدوَّنة ، تنهض على قاعدة مزيج من التناول التاريخي والتخيل الذاتي ؛ وبعبارة أخرى التناول ، أوالإبداع السردي بطريقة التخيل التاريخاني ، Imagination Historicism ، هي أيضاً ، رواية داخل رواية ؛ أو رواية وراء رواية ؛ فنرى السارد يجمع عشرات الملفات والإستعانة بكتب التاريخ والوثائق والسجلات لغرض توثيق مشروع مسرودته الجديدة هذه .
إذن ، إن هذه الرواية كُتبت على وفق منهج ما وراء السرد Meta-Narration . وبما إن الرواية هي مزيج ما بين التناول التاريخي والتخيل التاريخاني ؛ لذا فإن تناولنا لجوانبها الفنية يأتي من هذا المنطلق . إذ إن عبد الخالق الركابي يعيد انتاج التاريخ بطريقة التخيل ، وإضفاء ظلاله على شخصيات الرواية وأحداثها وطريقة سردها ، وهذا نوع من جنس ما بعد حداثي ؛ أي ما بعد الروي ؛ بمعنى آخر دخول التاريخ هنا في مجال الروي التخيلي .. وليس سرداً تاريخياً كما تعامل جورجي زيدان في رواياته ، مع التاريخ ؛ والتي اطلق عليها النقاد روايات تاريخية والتي تعودنا على قراءتها في مرحلة شبابنا . وهنا ، يقول هايدغر: إن التاريخانية LHistoricite ، أي " مغامرة " الانسان في التأريخ بما تقتضيه من " قرار " ، انما هي متقدمة بالاعتبارعلى التأريخ وأن لا قيام لتأريخ العالم ولا انتماء تأريخياً للتأريخ إلا بها وعلى اساسها . ) نقد الحداثة في فكر هايدغر. الدكتورمحمد الشيخ ص 193. ( . وبالتالي ، يتعامل الركابي مع الحقب التاريخية ليس بوصفها زمنا ماضيا حسب ، بل عني بالزمن تماما كما عني " مارسيل بروست لا لأنه يكتب عن الماضي ، مع الحقب التاريخية ؛ بل لأنه يتعامل مع أحداث الماضي ودور العقل في حفظ هذه الأحداث وترسيخها " الزمن في روايات فوكنر د . نجم عبد الله كاظم ص 83..
ومَنْ يقرأ هذه الرواية لعبد الخالق الركابي ، ينصرف ذهنه أول ما ينصرف ، الى منحى ثيمة معظم رواياته هذا المنحى، اذا لم نقل جلّها منحى التخيل الذاتي للتاريخ . فالتاريخ الحديث للعراق هو القاسم المشترك في هذه المسرودات الكبرى، ذات النفس الطويل ، وكأننا أمام إحدى روايات ليو تولستوي الملحمية ، مثل رواية " الحرب والسلام "، او رواية "موبي ديك "لهيرمان ميلفل ، او رواية " الإخوة كرامازوف "، لفيودور دستويفسكي ألخ ..
ولكن ، يسرد الراوي أحيانا ثيمة تاريخية تخيلية ، بموازاة سرد تاريخي محض ؛ والفرق بالطبع ، شاسع بينهما ؛ إذ يلتقيان أحياناً ، ثم يفترقان أحيانا أخرى ؛ أو لنقل تفترق الرواية التاريخانية عن السرد التاريخي لتسجل بصمات إبداعها وفنها وعالمها إياها ؛ وبهذا ، يستثمرالمؤلف مادة التاريخ منطلقا لعمله الابداعي التخيلي ، ويقدمه لنا بوصفه مادة ابداعية تخيلية ، خلفيتها التاريخ ، ومنطلقات نسيج متنها السردي ، الثيمة التاريخانية والزمكانية .
ومن هنا ، دعونا ندخل في الماوراء الروائي ، اذ يُعدّ بدرفرهود طارش الذي يزوره السارد بين الفينة والأخرى ، بمثابة السجل الموثِق ، أو الذاكرة المدوِّنة للأحداث في عهد الإحتلال البريطاني ، في مدينة الأسلاف ؛ المدينة التي تخيلها المؤلف ؛ " ربما على غرار مدينة فوكنر ماكوندو، اوقرية آراكاتا لغابرييل غارسيا ماركيز، بوصف هذا التخيل نزعة ما بعد الحداثة Meta –modernism ، في الادب ، وفي الرواية خاصة. ولا يني بدر طارش يحث الراوي ، أو ينكزه على استكمال الرواية ؛ رواية الرواية ؛ إن توقف لفترة زمنية ليطلب حضوره . فيسارع السارد حاضناً ملفات ضخمة لمسودة مدوِّنته . وهكذا ، يتنقل السارد بين بلدته الأصل الأسلاف ، المدينة المُتخيَّلة وبغداد . ليسرد له بدر وقائع وأحداث عهد الاحتلال البريطاني بخاصة ، من خلال ذاته ، وبعد ذلك يقوم السارد بمهام الروي. ومن ثم يتقاسم الروي مع بقية الشخصيات .. وبدر هذا هو ابن بلدة الأسلاف كما السارد . والأسلاف بوصفها مكاناً تخيلياً للسارد ، فإنه أي السارد – المؤلف يعيد خلق هذا المكان " ربما لإندراسه أو ربما لتآكله بفعل الزمن ." ليحاول أن يقنعنا بواقعيته وارضيته .. والهدف من وراء المؤلف هذا هو إمّا أن يكون هاربا من مكان حقيقي ، اسما وناسا وتاريخا وجغرافية وسوسيولوجيا ؟ وإما مكاناً متخيلاً بديلاً لجغرافية مدينة أخرى، وإما ؛ لنقل معادلاً موضوعياً ؛ وهو الأرحج على وفق رأينا ، لمدينة بدرة ؛ مسقط رأس المؤلف. تلك المدينة التي تقع على الحدود العراقية – الإيرانية ليخلق منها المؤلف ، مدينة تضج بالأحداث والوقائع وحتى الحياة .
إذن ، كان منطلقنا من هنا، في أن نكون بمستوى احداث هذه المسرودة، خاصة في الجانب الجمالي ، او التقني منها ، آخذين بالإعتبار المضمون ، وبما يقوله الروائي عبد الخالق الركابي ، وما اتخذه من موقف أخلاقي وفكري ، في فضح وكشف حقائق الإحتلالات ، من خلال عمل سردي صادق . وهذه المسرودة ، مسرودة " ليل علي بابا الحزين "، تنفرد عن سابقاته الى حد ما في ثيمتها التي تتضمن ثلاث حقب في تاريخ العراق هي ، حقبة الإحتلال العثماني الى حد ما، وحقبة الإحتلال الانجليزي ، وحقبة الإحتلال الأميركي ، فضلاً عن ارتجاعات الى النظام السابق . وكل هذه الإحتلالات جاءت حاملة شعارتحرير العراق !. فالعثمانيون رفعوا شعار" الاخوّة الاسلامية " والبريطانيون رفعوا شعار" جئنا فاتحين لا مستعمرين ." والاميركان رفعوا شعار " تحرير العراق ." وتُعدُّ هذه الاحتلالات مُدوِّنات لذاكرة تلك الحقب التاريخية ، لدى عبد الخالق الركابي، التي تمتد مسافة جسدها الزمنية ، بين 1920 - 2003 ، وهي عقودالإحتلال الإنجليزي والأميركي والنظام السابق. نرى فيها أنًّ أدوات السارد الضمني ، الذات الثانية للمؤلف في هذه الروايات ، يمسك بخيوط مسروداتها بمرونة وانسيابية فائقتين ، وأحياناً يقوم المؤلف الذات الأولى كشخصية في الرواية كما نرى لاحقاً.
تنهض رواية " ليل علي بابا الحزين ."على ثلاث عتبات تاريخية ذوات مدلولات رمزية ، فضلاً عن عنوانها الرئيس " ليل علي بابا الحزين ." تليه العناوين الفرعية وتطبيقها على أرض الواقع السردي وعلى التوالي :
1 - الخروج من المغارة .
2 - افتح يا سمسم .
3 - كلمات كهرمانة الأخيرة .
ولم يتناول السارد، مضامين تلك المحمولات ، على وفق التسلسل الزمني – التاريخي . Chronological، أي لم يتبع المؤلف التسلسل الزمني ، لمجريات ووقائع الأحداث بالتتابع ؛ إنما استخدم ما يُعرف بطريقة الإسترجاع Flash back، وأحياناً يتداخل نسيج متن الأحداث فيما بينها زمنيا ، حتى يكاد من الصعوبة بمكان فرز الزمان الذي يتحدث فيه السارد عن سابقه ، وحتى السارد ذاته قد تساءل " أيعود ذلك الى تمكن اليأس مني وقد توصلتُ الى يقين أن الكتابة أمر لا جدوى منه ؟ أم الى حيرتي في ايجاد الطريقة التي أربط بها الماضي بالحاضر؟ ص 230 ." فهو على سبيل المثال ، لا الحصر، ينتقل في سرده من الأحدث الى الأقدم ، والعكس صحيح ؛ فنراه وبعد اجواء الحرب الأهلية الساخنة والإغتيالات الواسعة ورمي الجثث في الشوارع الخ ؛ نراه يعود الى زمن بدر فرهود الطارش ليسترسل في روي الرواية عن زمن المسز بيل أو ما يُطلق عليها شعبيا " الخاتون . " ؛ الذائعة الصيت لدى العراقيين في زمن الاحتلال البريطاني ، والمستر تيلر تومسون العميل البريطاني ، ومسؤول المتُحف في مدينة الاسلاف ، ص 292. لذا سنتحدث عنها أي عن المسرودة ،على وفق سياق هذا المقال في طريقة التناول . وبما أن المسرودة تحمل مدلولات ومرموزات تاريخية – معاصرة ، فهي هنا ، اعني المسرودة ، تطرح نفسها لمتلقيها ليمتح ما يريد أن يمتح ؛ او ما يتمكن من الغورعميقا في ثنايا متن هذا السرد الباذخ ليجترح نصه إياه . وسنأتي على ذلك بما يناسب الحديث عنها في هذا المقال .
ولكن ، ثمة أسئلة تطرح نفسها علينا هنا ، إن بدرالشخصية المشاركة في التدوين لمرحلة معينة من الروي ، مرحلة الإستعمار البريطاني ، هو عرَّاب هذه الرواية اصلا، او ذاكرتها بالأحرى، كان صبياً مدللاً لدى تيري تومسون ، منغلاً منه ومن أمه ؛ شذرة المرأة الجميلة المتزوجة من ثلاثة ازواج ، وترتبط بعلاقة سرية مع تومسون هذا . وقد كشف هذه العلاقة ابنها فرج شقيق بدر الذي كان كثيراً ما يناكده بنغولته وعدم أصالته ، ويصفعه بين الحين والآخرعلى قذاله ساخراً منه بسبب أو دون سبب. وذات يوم واجهها مباشرة امام ابنها بدرهذا المُنغل ؛ بأنه قد كشفها مرات عديدة ، وهي تتسلل الى غرفة تومسون اثناء الليل . وصرخ بوجهها " اترينه ؟ تطلعي جيدا الى هاتين العينين الزرقاوين !! من اين جاءتهما هذا المسكين ؟ إنهما آثار جريمتك ؟ ونشوتك العابرة التي ختمت وجه هذا الصبي بوصمة عار لن تمحى ابدا !! ص 211. وفضلا عن هذا ، كانت المسز بيل قد اعتادت ان تستقبل" بدر " باسمة ، وبعدما ان تتأمله لحظات بعينيها الملونتين مثل عيني دمية كانت جملة واحدة اعتادت تكرارها مخاطبة بها زميلها تومسون :
" سبحان الله ! .. كأني بهذا الصبي العراقي النسخة " النيجتف " منك ! ص 293 .
ليس هذا حسب ، إنما يُعد بدر ربيبا للإستعمار البريطاني ، وكان محل عناية ورعاية تومسون دائما. فهو الذي ادخله في ارقى المدارس البريطانية في بغداد، وكانت سيارة المتحف بسائقها الهندي تحت خدمته توصله الى السفارة ثم تعيده الى منزله .
وهنا ، وبما أن جانباً كبيراً من مهام المسرودة ، أية مسرودة ، هو طرح تساؤلات ، فإننا نتساءل ، بوصفنا قراء ، ربما نحظى بجواب من المؤلف هنا. ما الذي يرمز اليه تنغيل بدر وخيانة شذرة لأبنائها ؟ هل أن الانجليز نغّلوا الشعب العراقي باحتلاله مثلا ؟ ولماذا يدوِّن بدر بالذات دون غيره من الأسلاف ، مدونة المسرودة من الذين عاصروا الاحتلال الانجليزي ؟ّ! على كل حال ، ربما ، سنوضح المزيد من السرد عن هذه الثيمة لاحقاً . علنا نجد دالتنا هذه .
وهنا ، نرى عبد الخالق الركابي السارد الأول في المسرودة ، يستقي مادته من بطون التاريخ وأزمانه كما المحنا – المادة الأساس – في معظم رواياته ؛ وبشكل خاص في هذه الرواية ، التي يمسك السارد بخيوط عهودها التاريخية أو مادتها الأساس فهو يقول: " أنا مثل ذلك النحّات الفلورنسي الذي كان يقول إنَّ التمثال يكمن في قلب الكتلة الصخرية ، وما عليه سوى إزالة القشور عنه .." أنا مثله أشعر أنَّ روايتي تكمن في تلك الاشياء المتنافرة : نصوص شفوية ، ووثائق وتواريخ ، وكتابات عرفانية ، واخرى ادبية .. فاضل ثامر ، المبنى الميتا- سردي في الرواية ص 51 ." وهذه العملية تتأتى من شعور المؤلف في التربع على عرش ادارة السرد والإمساك بتلابيب الأحداث وتوجيهها مباشرة بالاتجاه الذي يريد . . وهذه السايكولوجية النرجسية في السرد الروائي تمنح المؤلف المباشر " السارد " أحقية ادارة الأحداث والوقائع ، وتوجيه سلوكات الشخصيات بطريقة فنية بعيدا عن السرد السِيَري– مباشرة تمنح متن السرد الروائي ضخ دماء جديدة للسرد الروائي ، او انساغ صاعدة او نازلة في تشابك وتعقيدات نسيج المتن الروائي تكون أكثر مصداقية - فنية لو تولاها ما يطلق عليه السارد العليم او السارد الأول الذي يختفي خلفه الروائي،، كما إن المتلقي سيكون اكثر حميمية في تعامله مع السرد هذا إن هو تلقاه من سارد مباشر مؤلف ؛ وهذا لا يعني الوقوع في عملية سرد مباشرة أبداً .
يتبع

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram