طالب عبد العزيز
منذ أن أنبتهم اللهُ عليها وأهل البصرة يقشطون الملح عن وجه أرضهم، وحتى وقت قريب كانت التلال الصغيرة معلماً ودالة في كل قرية، ومنذ أن قاد علي بن محمد ثورة فقرائهم في القرن الثاني الهجري، وهم يحدثون أبناءهم وأحفادهم بحديث الملح وعطش النخل والتراب الثقيل، الذي يهال على أجسادهم، كلما صاروا الى الموت. وأنك لتجد في كل حصير لسفّاف، حائك نقشاً مكتوباً، يحدثك عن سنة ما، من سنوات طغيان الماء المالح على أرضهم، حتى لكأن الله لا يستودع ملحه إلا في أنهارهم.
بالأمس، وبسبب صعود لسان الملح في المدينة والانقطاع المتصل للكهرباء أشعل أهلُ قرية الصنكر النار بإطارات السيارات القديمة، فارتفعت ألسنة اللهب حتى خالطت النخل وسخّم الدخانُ الأرضَ التي عند قاعدة خزان الماء الكبير. أذكر أنني كنت إذا بلغتها أصيح بسائق باص الخشب، يا عم: الصنكر التانكي نازل. فيتوقف، مفرِّقاً بين موقفه في الصنكر الدوغة أو الصنكر الجرداغ، مع أن المسافة بأجمعها لا تتجاوز الأمتار المئة، كانت الطريق ملفوفة بالنخل وأشجار الفاكهة، فلا يميزها في الفجر مرتادو الطريق، فقد كانت القرى والأمكنة في البصرة تسمّى في الفجر وترددها الناس في النهار وما تبقى من الليل، فترسخ في الألسن وتنطبق عليها الأضلع، وهكذا كانت أسماء كوت الحمداني وجبل ملا شمس وقنطرة حرب ودرب المحيرات.
قبل أن تطوي الخلافةُ العثمانيةُ آخرَ أوراقها في البصرة، كان (فيحان العبد) يسكن قرية ابي مغيرة، وهو زنجيٌّ من ابي الخصيب، لعله كان حفيداً متأثلاً جداً لسليمان بن جامع مولى بني حنظلة، أحد قادة ثورة علي بن محمد، قد نال من الثكنة، التي كانت عند صدر النهر، فقتل وأصحابُه عدداً من جنود الدولة العليّة، في احتجاج على المعاملة السوء والزيادة في الضرائب، التي كان يفرضها الولاة العثمانيون على محصول الحنطة والتمر والعنب، وعلى الجسر الذي كانت دعامتاه من الخشب الساج رفع فيحان صوته منادياً الناس، أنْ هبّوا لنصرتي، فقد ضامني جنود الوالي، ارتج صوته في النخل والماء المحيط مدوياً، فجاءه الخصيبيون من كل نهر ونخلة، واجتمعوا عنده، ثم أن إمراة زنجية أخرى نادت، متظلمةً ما أصابها، فأنتصر لها العامة من الفلاحين والتعّابة الطينيين وتعجلوا نصرتها، هكذا تكون النصرة، أليس كذلك يا نور الدين الانصاري، يا صاحب "كتاب النصرة في اخبار البصرة"؟
لم يبق من الأنهار التي أحتفرها البصريون، عبر الزمن إلا القليل، ولم يبق من نخلهم إلا ما كان مريضاً، عُطشاناً، يقارع الملح بالصبر والنسيان، بعد أن سمحت حكومة المسلمين الطائفيين، حكومة الصدف التعيسة ببيع البساتين وردم الأنهار وصعود الملح ثانية وثالثة وعاشرة، في ما تبقى من الترع والجداول، بعد أن سمحت بسكنى الناس الذين لم يغرسوا فسيلا في حياتهم، ولم يروا الماء وهو يصعد عالية السباخ فيغسلها، ويهبط سافلة الأرض فيملأها أسماكاً وسلاحف وحكايات.
اليوم يتظاهر أهالي الصنكر، مطالبين بإيقاف لسان الملح الذي اندلع في شط العرب، وتزدحم بوابة الحكومة المحلية بالمئات من البصريين، العاطلين عن العمل، يقذفون الطوب والشتائم وقناني الماء الفارغة. ستبحُّ أصواتهم فيما تعدُّ الحكومة المحلية الأيامَ لتنسحب من المبنى، تاركة الملح يصعد، يصعد ويصعد حتى يبلغ نهايته التي يريدون.