TOP

جريدة المدى > عام > إرادة الذاكرة .. شعرية الخراب ورموز الحقائق.. في تجربة الفنان محمود شبر

إرادة الذاكرة .. شعرية الخراب ورموز الحقائق.. في تجربة الفنان محمود شبر

نشر في: 9 يوليو, 2018: 06:25 م

ناجح المعموري

كنت قد شاهدت معرضاً سابقاً للفنان محمود شبر في قاعة ود وقدمت مداخلة طويلة حول تجربته الفنية التي تمظهرت فيها وقائع الحياة اليومية وازدحامها بسرديات العنف والقسوة والالغاء ويمتاز هذا الفنان بذكاء في اختيار اللون ، لانه يعرف وبدقة ما ينطوي عليه من رمزية دالة ، كذلك هو يدرك بأن الرموز هي الحقائق الكبرى المعبرة عن الكائن ووجوده المزدحم بالسواد الداكن واللون الرمادي . عبر عن تلك المرحلة الصعبة والمعقدة من خلال السواد ، لأنه الدال على المتبقي من الكائنات وحتى على من غادر في سرديات العنف والقسوة . الفنان محمود شاكر استطاع اختيار اللون الأسود والاحمر ويوظفهما بذكاء للإعلان عن ثنائية الكائن وكينونته ، حيث صار السواد لوناً للاشتعالات المتروكة كومات من الحديد والأخشاب وأبدان السيارات ، وعبر عن مستورات اجساد الامهات والصبايا ، مثلما هو لون ثياب الذكورة . اما اللون الاحمر، فهو الاخر يتمظهر عن نتائج الاحتراق والقتل والابادة ، مثلما هو يعني لون الجسد الانثوي / الدم ، النازف في ميقات محدد شهرياً لتعلن ــ الجسد ــ عن حاجة بيولوجية من اجل الخصب ، وهو نداء الانوثة التي اختارت الدم لوناً لها لتعلن عن الموجود الباحث عن الوجود وسحرياته.
وعلى الرغم من سيادة السواد في معرض محمود شبر السابق وهذا الذي أتحدث عنه ، لأنه ينطوي على ( مذكرات مواليد 1965) لكني اعتقد بأن الحضور المحدد / واللون الأحمر الأكثر إثارة وتحدياً للسواد الذي دمر الآلاف من الأجساد ، لكن اللون الأحمر / الدم الذي تلفظه الأنثى أو المرأة لتعلن عن استعدادها للتجدد ، هذا اللون أكثر اثارة الاهتمام والعناية به ، لأن مساحة الحياة ، دائماً ما تكون هي الأوسع وتتمتع بفضاء الانبعاث الذي تنطوي على حدّ كامل للموت والاندثار .
هذا المعرض الذي اقامه الفنان في نهايات آذار 2013 بالتزامن مع بغداد عاصمة الثقافة العربية ، تضمن سرديات عن التفكك البارز، في الحياة وخلخلة الانتظام فيها ، وحضور مشاهد السيارات السوداء حاملة التوابيت . التي تمركزت وحدة بنائية متآزرة مع رموز أخرى عديدة ومتنوعة . وأستطيع الإشارة وبدقة لتنوعات الرمزيات العميقة وذات البلاغة ، هي في حقيقتها المتداولة ظاهرة عامة ، شائعة ومتداولة ، لكنها في لحظة توظيف الفنان لها ضمن مروية الألوان ، التي تنتهي أخيراً بلوحة مثيرة ومستفزة . ومن تلك الرموز الطيور والدوائر والسيارات الملونة والمثلثات المعبرة عن الذكورة والأنوثة والأذرع هي المتبقية وكأنه يعطي لها قيمة انسانية ، حازت عليها منذ العتبات البدئية ومنذ لحظة سومر وحتى الآن . اليد التي تبتكر وتبدع وتخترق لم تعد هذه وظيفتها ، بل القطع والحرق ، منقولة بالشفلات . العيون المفتوحة المتسعة المعلقة بوجه جامد / صامت لكن عينيه تتسع كثيراً ، لتعلن عن احتجاج ضد الخراب .
المثير للدهشة حازت الطائرات لوناً أبيض ، لكنها خلقت السواد والتلاشي والزوال ، التفكيك والتفتت ، موجود له ما يشير إليه ، لكنه موجود غير مكتمل . هذا أمر مثير الدهشة ، في هذه التجربة الفريدة التي منحت الكائن المفتت ، فرصة الإشارة لخيانته ومماته والدمار العام والواسع .
امتلك هذا الفنان ذاكرة متحركة ، ليست ثابتة وهذا مثير للتساؤل ، لحظة ما يلعب بالألوان ، أفقدها عبر الاستعمال خصائصها الجمالية وأضفى عليها دلالات الموت والعطل . هنا يكمن ذكاء الفنان الذي يتحكم باللون على سطح اللوحة والتسلل للفراغ ويعطيه دلالة مختلفة .
ثنائية الكائن في اللوحة رقم 5 ، يقفان معاً إمرأة ورجل وضع المرأة أولاً واختار لها أن تحتضن قرينها ، وهما ملطخان بالزوال والمطر الأسود . لكن المتبقي والمتروك لنا نحن الذين نتكشف شيئاً فشيئاً كل ما شهدناه وتعرفنا عليه بدقة . وقد اعاد انتاجه المبدع المتميز محمود شبر بمرويات اختارت الرموز التي جعلت فيها لوحات ضاجة بتنوعات المعنى ، وكأنه ( محمود شبر ) يعيد مقولة نيتشه الشهيرة " الرموز هي حقائقنا الباقية " .
النسوة المسوّدات ، يقفن بذهول وبالحركة الأخيرة التي حصل فيها الخراب الطارد لجسد المرأة فإزدانت وهي تقف صامتة لتراقب التوابيت فوق سطوح السيارات . توابيت مشحونة بالامتلاء ومتوترة بخلوها من الذي غادر تماماً .
لم يعد الموت والدمار مكتفياً بكل الذي حققه ، بل طارد النساء بسلال الانبعاث والتجدد والخصوبة فيطردن الاحتراق ويقتل أهم ما ابدعته الخليقة السومرية من أساطير ، مع رموزها واعني به النخلة . كما في الصفحة 7 ، لكن محمود شبر لا يكتفي بذلك ، بل يمنحننا ضوء ، وأملاً متواضعاً بالبياض . الشعرية في هذه اللوحة ، احتراق النخلة وبقاء سعفها وعذوقها ، نخلة سوداء وأخرى ذات جدع أحمر . جاورا النخلة المشتركات معها برمزيات أساطيرها المتوارثة عن عتبة الأصول .
لم يكن الموجود في وجوده مشوهاً ، معوقاً ، يؤدي وظائفه اليومية ولا يتوقف عن متابعة المألوف ليعطي انموذجاً خاصاً وفريداً وسط حياة . اتسع فيها التشوه ، وازداد عدد الموجود ، فغادرت لوحته رقم 11 الفردية والصفة الواحدية وازداد العدد واختار الرقم 3 وهذا رمز بالإضافة لرقميته له دلالة كبيرة هي التي صعدت العنف والكراهية وافضت الى كل الدمارات والزوالات الهائلة . هذا لعدد الثلاثي السيادة فيه للذكورة.
محمود شبرفنان مبدع . حساس ، مرهف ، علاقته مع الحياة عميقة وقوية وابتعدت كثيراً عن السطوح واتجه نحو الاعماق والتقط حقائق الحياة ، رموزها : فالانسان الذي عطله الخراب تمظهر عن ابداع كبير فذهب نحو الموسيقى فاللوحة 12 معوق بساق واحدة ، يتحرك على كرسيه في إحدى الساحات وهو يراقب سيارات التوابيت ، جلس يعزف ليقدم رسالة كبرى عن ان العنف مؤقت والجمال هو الباقي والابدي وعلى يمين الشاب المعوق زهرية فيها اربع زهرات . لم يتوقف والطائرات ، تخترق السماء لم تستطيع تضيع الموسيقى ولم يؤثر مشهد التوابيت الدال على زوال مريع .
الموسيقى تدلّ على عظمة الحياة واستحالة اندثارها ، هذا ما عبر عنه الفنان المبدع محمود شبر أيضاً في 14 ، 15 و 19 هو يمجد الجمال عبر الألوان والرموز والموسيقى والغناء والرقص كما في لوحة 14 وداهم السواد الجماعة المحتفية بمناسبة ابتدعتها وغزاها السواد ، لكن آلة الإيقاع حاضرة بسوادها .
معرض مذكرات رجل من مواليد 1965 خلخل الانتظام في لوحاته من اجل ان يعطيها عمق ما يعنيه الهشيم وما تومئ له الحياة بحضورها اليومي / المألوف والغرائبي . الواقع في لوحاته أسطورية ، لا معقولة وهنا تكمن عظمة هذه التجربة التي تأخذ استحقاقها في العراق . محمود شبر فنان ميزته تجربة فريدة من نوعها وتحول بها ، معتمداً على كل تفاصيلها الى وثيقة وليس هناك أعظم من الوثائق التي يبتكرها الأدب والفن في مرحلة من أخطر مراحل العراق الذي سيوظف كل الموت والاحتراقات من اجل نافذة نحو مستقبل أنا أعرف ماذا سيكون عليه محمود شبر . أقول هذا وأُراهن عليه هذا المعرض أحد أهم الدلائل على تحققات بغداد عاصمة الثقافة العربية .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram