لطفية الدليمي
نتكلم هنا وهناك ، في المجالس ومحطات التلفزة والاجتماعات والإذاعات ولكن هل ثمة من يصغي ؟؟ هل هناك مايكفي من الناس لسماع كل هذا الكلام البشري المتدفق من كل مكان ؟؟ الإصغاء فن إجتماعي راقٍ يتطلب قدرة على أن تكون متلقياً جيداً تتفاعل مع من يحدثك وتتواصل معه بإجابات من صلب موضوعه فهل هناك مايكفي من المنصتين الجيدين لاستيعاب طوفان الكلام بكل اللغات ومن كل جهات الكوكب ؟؟ هل هناك مستمعون بقدر منتجي الكلام ؟؟
نكتب كثيراً وتظهر كل صباح ملايين النسخ من الصحف الورقية والالكترونية في بلدان الشرق والغرب ، ومعها تصدر أعداد هائلة من الكتب في كل أنحاء العالم وبكل اللغات الحية، ولكن هل ثمة عدد كاف من القراء ليهتم بكل هذه الإصدارات ؟؟من يقرأ كل هذه الكتب والصحف والمواقع الالكترونية حقيقة ؟؟
مئات الملايين بل مليارات الأشخاص يكتبون على تويتر والفيس بوك ليثبتوا وجودهم في ازدحام هذا العصر المضطرب بأية طريقة ، بعضهم صار ينتج فيديوهات على اليوتيوب أي تحول إلى ( يوتيوبر) يقدم مايشاء من صور وفعاليات وخطابات من غيررقابة او محاسبة على صحة المعلومة التي يطلقها في فضاء اليوتيوب أو جدوى المادة التي يطرحها للناس ، الكل أصبحوا فنانين وكتاباً ومهرجين وراقصين وأطباء شعبيين وطباخين ومصممي ديكور ومشعوذين ومروجين للاعلانات من أجل كسب الأموال بلا اي اعتبار لأية قيمة سوى هوس الظهور والشهرة .
يقول الفيلسوف الألماني بوريس غرويس :
( نحن نعيش في عصر الاستعراض. وما يتغير الآن أن كل شخص يود أن يصير بطلاً، يريد الجميع أن يستعرض ما يعرفه وأن يتحصل بالمرة على نجاح. نجد هناك ماي سبيس ويوتيوب يود الجميع أن يعبر عن نفسه، الجميع فنانون. مع هذا تنشأ مسألة جديدة: من المتفرج؟ )
الكل أبطال و الجميع يلقون كلمات الحكمة والنصائح على جمهور وهمي من متفرجين مفترضين، هم في الوقت ذاته يودون أن يكونوا أبطالاً في مجال مغاير أو مشابه ، حتى تحول كل شيء إلى استعراض سائل متدفق بلا حدود وعمت فوضى الأفكار والتلفيقات ووسائل الخداع والشعوذة أشبه بطوفان اكتسح كل شيء وحوصرت الأرواح الرقيقة المنتجة الحقيقية للفن والإبداع والأفكار الأصيلة وتسيد المسرح أبطال فارغون يستجدون المتفرجين وجمهور المخدوعين .
يشير الفيلسوف غرويس إلى أن معظم الناس يتكلمون طوال الوقت ولكنهم غير متأكدين من وجود أحد معني بما يقولون ، فعصر الاستعراض السائل بحاجة إلى كثير من المتفرجين لكننا لانجد أحداً فقد تحول معظم سكان مواقع التواصل الى منتجين للكلام والكتابات السطحية والأفكار التي لم تخضع للاختبار، بل أن البعض يجرؤ على تقديم تنظيرات في قضايا لا يملك معرفة أكيدة فيها ، الاستعراض أصبح آيديولوجيا الذوات الخاملة التي وجدت متسعا من الفضاء الالكتروني لتعرض تفسها وتتمتع بدور البطولة ، وهم يتخيلون وجود متفرجين لامرئيين يتلقون استعراضاتهم .
ثمة بين هؤلاء الأبطال الموهومين من يطلق خطابات أيديولوجية سياسية وآخر يقدم خطاباً دينياً وغيره يشدد على رفض المختلف ويوجه انتقادات فادحة ويؤلب خلال خطابه المتشنج على إقصاء المختلف بل واستبعاده من الوجود / قتله ، يهاجمك أمثال هؤلاء كالوباء من كل الجهات : من الفضاء الألكتروني والإذاعات والشوارع والمنابر وسيارات النقل ، يمثلون أدوار البطولة ويحولونك إلى متفرج بالإكراه وماعليك حينها سوى أن تتخذ موقع الدفاع لتنجو من قصفهم وتحيّدهم.