نجم والي
إذا كان الشرق أو الجنوب ترك أثراً على كاتب من شمالي الأرض، فإنه لم يؤثر بمثل هذا الوضوح، مثلما أثر على الدانماركي هانز كريستيان أندرسن ، فالكاتب المولود في مدينة أودنسة الدنماركية في 2 نيسان 1805، والذي يُعد واحداً من الكتاب البارزين في مجال كتابة الحكاية الخرافية، كما يُعتبر شاعر الدانمارك الوطني بدأ اهتمامه بالشرق وعالمه الخيالي منذ وقت مبكر، فهو ورغم كونه كتب في مختلف حقول الأدب كالرواية، والنص المسرحي، والشعر، غير أن موهبته تجلت، أكثر ما تجلت في مجال الحكايات الخرافية التي برع في كتابتها، ليس القصص الخرافية التي سمعها عندما كان صغيراً وحسب، والتي اشتغل عليها لاحقاً بأسلوب بسيط وصبها في قالب الحكاية الشعبية، بل وضع الشرق دائماً نصب عينيه، كأن القص الخرافي الذي تميز به، لم يكن كافياً لإشباع خياله المشبع بالحكايات.
اهتمام أندرسن بالشرق تجلى أولاً بإصداره مخطوطات نثرية بعنوان "كتاب مصور بدون صور" مستوحى من ألف ليلة وليلة، بعد أن كان قد أصدر قبل ذلك بضعة أعمال روائية ومسرحية، كما كان أصدر مجموعة من القصص الخرافية أهمها "حورية البحر الصغير" التي يعدها الخبراء بأدبه، بأنها نقطة انطلاقته الفنية، إلا أن ولعه بالشرق الذي كان بالنسبة له وكما سنعرف من قراءة يومياته أثناء رحلته التي سيقوم بها إليه، جعله يتوق إلى تحقيق حلمه بزيارته للشرق، خاصة وأننا سنعرف من خلال تلك اليوميات أيضاً، أن صاحب "إبن البط القبيح"، كان يشعر في قرارة نفسه، بأنه أكثر ميلاً للعيش في الشرق منه إلى العيش في عالمه، "العالم الألماني الدانماركي الممل"، كما كتب في يومياته مرة، وكأن الكاتب الاستثنائي هذا، كان قد تنبأ مسبقاً، أن رحلته إلى الشرق، ستشكل بالفعل علامة فارقة وتحولاً كبيراً في حياته الأدبية والشخصية، إذ لا يتحول هو وحده بعد عودته مباشرة إلى كاتب قصص خرافية وأساطير بلا منازع وحسب، بل ستغرف قصصه الخرافية في شكلها ومضمونها الكثير من أسلوب القص الشرقي وسحره.
وهي معرفته تلك، التي جعلته أيضاً يتساءل مع نفسه، إذا كان عليه أن يبدأ برحلته إلى الشرق، وإلا فإن شخصاً مثله أولع نفسه بالرحلات مبكراً، ما كان تردد لحظة بالقيام برحلة جديدة.
في يوم الإثنين 29 مارس 1841 أولاً يبدأ هانز كريستيان اندرسون بسؤال نفسه في يومياته (التي نُشرت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي للمرة الأولى بترجمتها الألمانية الصادرة)، إذا كان عليه أن يشرع بالفعل برحلته إلى القسطنطينية أم لا، كان حينها ما يزال في أثينا، وكان ترك وراءه آلاف الكيلومترات بعد أن بدأ رحلة بدأت في هامبورغ آلتونا عبر المانيا وإيطاليا ثم طريق البلقان وحتى أثينا اليونان، تردده أو خوفه من الرحلة حمله على الذهاب إلى هانزن أحد أصدقائه المقيمين في أثينا، ليسأله المشورة، ولحسن حظه يتعرف عنده على بوبة الذي كان في القسطنطينية والذي سيشجعه مباشرة على القيام بالرحلة، "نعم، عليك السفر"، سيقول له، على عكس دكتور روس، الذي لا ينصحه بالقيام بالرحلة، بدل ذلك يطلب منه البقاء هنا في اليونان والتجول في الأكروبوليس وغيره، ولحسن الحظ لم يكن هانز كريستيان أندرسن مرتاحاً في أثينا، فبعد جولة قصيرة في المدينة، سيكتب بجزع: "اليونانيون كلهم محتالون" ، وهذا ما يجعله يشجع نفسه على اتخاذ قراره بالسفر إلى القسطنطينية في الثاني من نيسان 1841، بعد أسبوع سيحاول الصعود إلى سطح السفينة الذاهبة إلى القسطنطينية، لكنه يفشل، لأن السفينة تغادر الساعة الرابعة صباحاً، لماذا كان ذلك عائقا؟ هل لأنه لا يستيقظ مبكراً؟ لا جواب، لكن بعد ثلاثة أسابيع بالضبط، في 22 نيسان 1841 ستتحول الرغبة إلى حقيقة، ليصعد أندرسن على سطح السفينة البخارية الفرنسية "رمسيس"، وأولاً في الساعة الثانية عشرة تنطلق بهم السفينة بإتجاه القسطنطينة. ها هو الشرق ينادي، يقول أندرسن، وكم هو سعيد بالذهاب إلى هناك يلبي نداءً قديماً كان يلح عليه كرغبة، ولم يتخيل يوماً أن الرغبة القديمة تلك ستتحقق، عندما يتحول الذهاب الى الشرق إلى حقيقة.