TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: زارعو الكلمات وحرّاثو الأرض

قناديل: زارعو الكلمات وحرّاثو الأرض

نشر في: 21 يوليو, 2018: 06:29 م

 لطفية الدليمي

- 1 -
مارست البشرية الزراعة كأول خطوة حاسمة في تطور الحضارة الإنسانية ونشوء مفرداتها اللاحقة، وفي حقول الإنسان الأول ابتكرت أغاني الحصاد وقصائد العشق ، وتداخل لفظ كلمة الزراعة ومفردة الثقافة في معظم اللغات الأوروبية وغالباً مايجري تمثيل الكتابة بعمليات الحرث والبذار والري والتعشيب وجني الثمار .
شخصياً أرى في الكاتبة زارعة معانٍ وحكايات ومدونة رؤى ، تحرث حقول اللغة وتستنبت شجرالفكرة و تقطف تفاح الأهواء ، حصادها المعنى وأشجارها النصوص وثمارها الكلمات ، تكدح وترعى الكتاب ليزدهر وتصطنع منه توهجات الفكر ونكهات العشق وانعكسات المواقف وتشوّقات البشر وأحلامهم ، تستخرج من اللغة ترياقاتٍ لشفاء الروح في مختبراتها ، تستفيق الكاتبة كما الفلاّحة كل فجر من النسيان والأحلام الغامضة وقد تعفرت يداها وقلبها بغبار النجوم وشذرات الرؤى، تشعر ببعض ضوء يتقد في رأسها وحجرات القلب، تستضيء لحظاتها بصحو الفكرة : تتفقد بذار حقولها وتراجع بستان أحلامها وتعتني ببراعم اللغة النضرة التي ازدهت ونمت واتخذت شكل نصٍ أو صارت فصلاً من رواية وربما أمست مقالة أو ترنيمة تتردد في وعيها ، تقلّم الكاتبة كما الفلاحة الناتيء من شجر الكلمات، تقصي العبارة الناشزة وتوازن بين طراوة اللغة وفرادة المعنى، وتختبر وضوح الفكرة وجدواها ،تدون أو تقطف ما نضج من غلال المخيلة ، وتقلب الأفكار الجديدة الطازجة وتختبر قيمتها ومدى قدرتها على إحداث أثرٍ ما لدى قراءتها أو تداولها، تديم الكاتبة حياتها بالعمل في حقول الحلم واللغة ، هذه الحقول الثرية المنتجة للمشاهد المبتكرة والشخصيات القلقة وتحولات البشر ، تصيغ قصصا وحكايات ورؤى مستقبلية وكلما أتمت نصاً تتألق روحها بالإنجاز وتجتاحها التشوقات المشتعلة : تغدو طفلة نزقة وامرأة جامحة وعاشقة متيّمة وعرافة رائية ؛ فإذا ماحرمت يوما من كل هذا وفقدت بهجة الاشتغال على الكلمات ولم تواصل حرث اللغة ونثر بذارها والعمل على ريّها كل صباح ، حلّ اليباس والكدر بأيامها وأدركت فداحة الحرمان من حياتها الموازية ، يحدث مراراً أن تشاغلها مفاجآت العيش وإدامة الوجود اليومي ومطالب مقاومة الفناء ، وقد تتعرض لوعكة أو مرض عابر أو ألم متناوب أو أرق مباغت، فيتعذرعليها التجوال الحرّ في مجاهل غابتها ومسالكها الحافلة بالمفاجآت وقنص الفكرة الطازجة ، فتوقن آنئذ أن حرمانها من شغفها الذي أقامت عليه صيغ وجودها ، هو في حقيقته حرمان من الحياة ذاتها ونبذ ٌ من بهجة التيقظ وسطوع الوعي والتناغم مع دفق الوجود والأمداء الكونية.
- 2 -
تكدح الفلاحة الأخرى كما تفعل زارعة الكلمات ، تتعفر يداها ورئتاها بتراب الأرض ويغمرها غبار اللقاح ونكهات الرحيق والأشذاء وتنهض قبيل انهمار الندى على جبين الكوكب وتشرع في إدامة الأمل.
تخبرني صديقتي الفليبينية أن والدتها الفلاحة التي بلغت السادسة والثمانين، توقظ الفجرمن ذهوله وتحتسي قهوتها وتمتطي فرسها الجموح وتمضي إلى مزرعتها التي أزدهرت بين يديها طوال ستين عاما وعملت خلالها في زراعة أنواع الشجر و الخضار لتزدهر أسرتها ازدهار أشجارها ، فقدت زوجها في حادثة اصطدام قطار، لم تستسلم وبدأت مشروعها ووصارت تصدر خضارها وثمر جوز الهند والأناناس والموز والمانغو إلى المدينة ، قبل أيام سقطت المزارعة المسنّة عندما كبت فرسها في المزرعة فأصيبت بكسور في ركبتها ، زرعوا لها مفصلاً معدنياً وعندما أفاقت من العملية انتحبت بحرقة ، ليس لفداحة الألم ولا لرؤية العكازين قربها، بل ليقينها بفقدان معنى وجودها وقد حرمت وهي كاتبة الأرض من تدوين عالمها بنباتات موسم جديد.

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

عمليات بغداد تغلق 208 كور صهر و118 معمل طابوق وإسفلت

أسعار الصرف اليوم: 143 ألف دينار لكل 100 دولار

ترامب: أوقفتُ 8 حروب وأعدتُ "السلام" للشرق الأوسط

الأنواء الجوية: انتهاء حالة عدم الاستقرار وطقس صحو مع ارتفاع طفيف بالحرارة

حصار فنزويلا ينعش النفط… برنت وغرب تكساس يقفزان في آسيا

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram