لطفية الدليمي
- 1 -
مارست البشرية الزراعة كأول خطوة حاسمة في تطور الحضارة الإنسانية ونشوء مفرداتها اللاحقة، وفي حقول الإنسان الأول ابتكرت أغاني الحصاد وقصائد العشق ، وتداخل لفظ كلمة الزراعة ومفردة الثقافة في معظم اللغات الأوروبية وغالباً مايجري تمثيل الكتابة بعمليات الحرث والبذار والري والتعشيب وجني الثمار .
شخصياً أرى في الكاتبة زارعة معانٍ وحكايات ومدونة رؤى ، تحرث حقول اللغة وتستنبت شجرالفكرة و تقطف تفاح الأهواء ، حصادها المعنى وأشجارها النصوص وثمارها الكلمات ، تكدح وترعى الكتاب ليزدهر وتصطنع منه توهجات الفكر ونكهات العشق وانعكسات المواقف وتشوّقات البشر وأحلامهم ، تستخرج من اللغة ترياقاتٍ لشفاء الروح في مختبراتها ، تستفيق الكاتبة كما الفلاّحة كل فجر من النسيان والأحلام الغامضة وقد تعفرت يداها وقلبها بغبار النجوم وشذرات الرؤى، تشعر ببعض ضوء يتقد في رأسها وحجرات القلب، تستضيء لحظاتها بصحو الفكرة : تتفقد بذار حقولها وتراجع بستان أحلامها وتعتني ببراعم اللغة النضرة التي ازدهت ونمت واتخذت شكل نصٍ أو صارت فصلاً من رواية وربما أمست مقالة أو ترنيمة تتردد في وعيها ، تقلّم الكاتبة كما الفلاحة الناتيء من شجر الكلمات، تقصي العبارة الناشزة وتوازن بين طراوة اللغة وفرادة المعنى، وتختبر وضوح الفكرة وجدواها ،تدون أو تقطف ما نضج من غلال المخيلة ، وتقلب الأفكار الجديدة الطازجة وتختبر قيمتها ومدى قدرتها على إحداث أثرٍ ما لدى قراءتها أو تداولها، تديم الكاتبة حياتها بالعمل في حقول الحلم واللغة ، هذه الحقول الثرية المنتجة للمشاهد المبتكرة والشخصيات القلقة وتحولات البشر ، تصيغ قصصا وحكايات ورؤى مستقبلية وكلما أتمت نصاً تتألق روحها بالإنجاز وتجتاحها التشوقات المشتعلة : تغدو طفلة نزقة وامرأة جامحة وعاشقة متيّمة وعرافة رائية ؛ فإذا ماحرمت يوما من كل هذا وفقدت بهجة الاشتغال على الكلمات ولم تواصل حرث اللغة ونثر بذارها والعمل على ريّها كل صباح ، حلّ اليباس والكدر بأيامها وأدركت فداحة الحرمان من حياتها الموازية ، يحدث مراراً أن تشاغلها مفاجآت العيش وإدامة الوجود اليومي ومطالب مقاومة الفناء ، وقد تتعرض لوعكة أو مرض عابر أو ألم متناوب أو أرق مباغت، فيتعذرعليها التجوال الحرّ في مجاهل غابتها ومسالكها الحافلة بالمفاجآت وقنص الفكرة الطازجة ، فتوقن آنئذ أن حرمانها من شغفها الذي أقامت عليه صيغ وجودها ، هو في حقيقته حرمان من الحياة ذاتها ونبذ ٌ من بهجة التيقظ وسطوع الوعي والتناغم مع دفق الوجود والأمداء الكونية.
- 2 -
تكدح الفلاحة الأخرى كما تفعل زارعة الكلمات ، تتعفر يداها ورئتاها بتراب الأرض ويغمرها غبار اللقاح ونكهات الرحيق والأشذاء وتنهض قبيل انهمار الندى على جبين الكوكب وتشرع في إدامة الأمل.
تخبرني صديقتي الفليبينية أن والدتها الفلاحة التي بلغت السادسة والثمانين، توقظ الفجرمن ذهوله وتحتسي قهوتها وتمتطي فرسها الجموح وتمضي إلى مزرعتها التي أزدهرت بين يديها طوال ستين عاما وعملت خلالها في زراعة أنواع الشجر و الخضار لتزدهر أسرتها ازدهار أشجارها ، فقدت زوجها في حادثة اصطدام قطار، لم تستسلم وبدأت مشروعها ووصارت تصدر خضارها وثمر جوز الهند والأناناس والموز والمانغو إلى المدينة ، قبل أيام سقطت المزارعة المسنّة عندما كبت فرسها في المزرعة فأصيبت بكسور في ركبتها ، زرعوا لها مفصلاً معدنياً وعندما أفاقت من العملية انتحبت بحرقة ، ليس لفداحة الألم ولا لرؤية العكازين قربها، بل ليقينها بفقدان معنى وجودها وقد حرمت وهي كاتبة الأرض من تدوين عالمها بنباتات موسم جديد.