ستار كاووش
رغم السماء الملبدة بالغيوم، واصلتُ طريقي ماشياً وسط مدينة تورونتو الكندية، وأنا أحمل كوب القهوة سريعة التحضير، التي اشتريتها من مقهى ستاربيكس، لأدخل شارعاً طويلاً توزعت على جانبيه بيوتاً خشبية كبيرة، يعود طرازها الى بداية القرن العشرين. مضيت في الشارع، أتأمل المنازل المتشابهة التي إرتفعت عتباتها عن الرصيف بضع درجات، وقبل أن أدلف يساراً قاصداً المتحف، توقفت، لأستدير وألقي نظرة أخيرة على هذه البيوت الجاثمة خلفي، وكأني أردتُ التأكد من وجودها الفعلي، فَبَدَتْ تحت المناخ الغائم والمنظور العميق، تتدرج في الحجم وتختفي بعيداً تحت أفق رمادي، لتذوب في نهاية الشارع، وكأنها جزء من ستوديو أُعِدَّ لتصوير فيلم عن الغرب الامريكي. مشيت بضع خطوات، فداعبت وجهي حبات المطر، التي بدأت تتزايد، وهي تتساقط فوق رأسي وتلتمع أيضاً على زجاج السيارات. وبينما كنتُ منشغلاً بالمشي وإحتساء ما تبقـي من القهوة، لاحَ أمامي متحف انتاريو وهو يستقر وسط المدينة، بحجمه الكبير الذي إمتَدَّ على مساحة مئتي متر تقريباً، بمحاذاة شارع دونداس، بأضلاعه الزجاجية المترابطة وسقفه البيضوي، الذي بدا مثل سمكة كبيرة تلتمع حراشفها تحت زخات المطر.
لم أتردد في إختيار البداية الجيدة في رؤية الأعمال، لذلك إتجهت مباشرة الى القاعة الهولندية، لأتعطر أولاً بكلاسيكيات ريمبرانت وفرانس هالس وفان دايك وغيرهم من عباقرة الأراضي المنخفضة، وهناك إستثمرت الأريكة المريحة التي وُضِعَتْ وسط الصالة، لأجلس قبالة بورتريت المرأة ذات الثوب الاحمر التي رسمها ريمبرانت صحبة كلبها الصغير. تابعت حركة الفرشاة، وتأملت وجه السيدة التي إلتمعَ عقد لؤلؤ على رقبتها، حتى شعرت بأنها تعيش معنا وتقاسمنا نفس القاعة. بعد قليل كان بإنتظاري مجموعة من الانطباعيين، مثل مونيه ومناظره الصيفية التي توهجت فيها الأشجار تحت أشعة الشمس، والجسور المنعكسة على نهر التايمز، والتي رسمها أثناء اقامته في لندن. وبجانبه استقرت لوحات معاصريه الكبار أمثال ديغا وسيزان وبيسارو وغيرهم، حتى وصلتُ الى فان غوخ وفلاحاته المنشغلات بحرث الأرض، وكأنهن غير مباليات بتمثال بول غوغان المذهل الذي يقف بمواجهتهن مباشرة. وقد نحت غوغان هذا التمثال من خشب التومانو المنتشر في جزيرة تاهيتي، وتظهر فيه امرأتين في طقس خاص من طقوس الجزيرة، واحدة ترفع يدها بإتجاه الأخرى وتفصل بينهما نبتة استوائية، وقد أحاطت بقاعدة التمثال بعض الرموز والإشارات التي كانت بداية إنعطاف غوغان نحو الأعمال الرمزية.
في صالة كبيرة أخرى وجدت الفن الكندي الذي لم يصلنا منه الكثير مع الاسف، والذي بدأ بواقعية بول ديل وروبرت هاريس ولويس ريتشارد ولورا ليال وهيلين مكنيكول وغيرهم الكثير، ليصل الحداثة على يد فنانين معاصرين أمثال ريتا ليتيندر وجاك بوش وأيفس كاوشر وماري برات والعديد من الفنانين الآخرين الذين منحوا الفن الكندي حضوراً كبيراً.
أثناء تجوالي هنا وهناك بين روائع لم أطلع عليها في أوروبا، بانَ وإلتمعَ من بعيد، رأس ذهبي في إحدى القاعات، فإقتربت وإذا به منحوتة (البكاء الأول) للنحات برانكوسي، الذي نحته بمادة البرونز. ومع شكله البيضوي المائل، وبضعة شخطات تمثل باقي الملامح، إستعدتُ وجوه مودلياني التي تأثر فيها كثيراً بمنحوتات هذا الفنان العظيم. في هذه المنحوتة التي تغفو وسط المتحف، حذفَ برانكوسي الكثير من التفاصيل، ليدفع النحت الى أقصى التجريد. قضيت منتصف النهار أجوب أروقة المتحف، أتنقل بين أعمال الملوِن المذهل شاغال وتجريدات ديلوني وتكعيبية ليجيه وتعبيرية أوتو ديكس وسيريالية تانغي... وآخرين كثيرين. حتى وصلت الى أعمال روشنبرغ التي فتحت الطريق بعد الخمسينيات نحو الحداثة.
اشتريت كتاباً من المكان المخصص لبيع الكتب، وخرجت ليداهمني المطر من جديد. ومثلما حماني المتحف من زخات المطر، هاهو كتاب الفن يحميني أيضاً بعد أن وضعته فوق رأسي، وركضت مسرعاً أبحث عن أقرب مقهى.