لطفية الدليمي
منذ سنوات توقفت عن متابعة الفضائيات العربية - إلا فيما ندر- واخترت أن ألوذ - حين أرجو بعض متعةٍ واسترخاء بعد العمل - بثلاث قنوات اعتبرتها مفضلاتي الأثيرات : الناشيونال جيوغرافيك ، وقناة اليابان الدولية بالانكليزية NHK world وقناة الصين العربية CGTN ، وتختلف كل من هذه القنوات عن الأخرى في تقديم توجهاتها الثقافية والفكرية وطروحاتها العلمية والاقتصادية ضمن أطر فنية وإعلامية غير تقليدية ، مثلما تختلف في تمرير سياسات ٍ بعينها للمشاهدين ، لكنها تتفق معا في تقديم رؤى مستقبلية عن عالمنا في القرن الحادي والعشرين مع الاحتكام إلى خبرات التراث الشعبي للأمم وذاكرة الأدب والفن والحرف والعادات بخاصة في الصين واليابان .
منذ أكثر من عشر سنوات طرحت الصين فكرة إحياء طريق الحرير فكرة ثقافية اقتصادية مدروسة وهي بمثابة ( إعلان حرب ثقافية ناعمة ) تواجه بها تغوّل منافسيها الغربيين وهي الخطة التي تتميز بنعومة الحرير الصيني الشهير وهدوء الرؤية التاوية ودهاء الفكرة الكونفوشية التي تتركز حول الأخلاقيات والآداب وسبل إدارة الدولة والمواضعات الاجتماعية ، فسعت إلى إحياء طريق الحرير الذي عبرت عليه قوافل تجارة الحرير والتوابل والأحجار الكريمة من قلب آسيا وصولاً إلى أوروبا ، وساهمت اليونسكو عبر مؤتمرات متتابعة في إظهار الجانب الثقافي من المشروع ونوقشت في لجان كثيرة قضايا الثقافة والموسيقى والفنون التي نشأت على جانبي هذا الطريق العتيد الذي بقي مجرد حلم مستعاد من ماضٍ إمبراطوري ساحر ، تحدث عنه قبلاي خان الرحالة الفينيسي وكرس له الروائي الإيطالي الكبير ( ايتالو كالفينو ) روايته المدهشة المتخيلة ( مدن لامرئية ) .
غير أن اضطرابات العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين ،اجتاحت طريق الحرير الممتد من قلب الصين حتى المتوسط فحدثت ثورات وانقلابات وتحوّلات عنيفة ، تبعها الانهيار المدوي لانحلال المنظومة الاشتراكية فتعثرت فكرة طريق الحرير خارج الصين ، غير أن الصين لم تتراجع
فأعلنت في 2013 مبادرة عملاقة ضمن المشروع ذاته باسم (مبادرة الحزام والطريق) وهيأت المؤسسات الثقافية سلسلة من ألف حلقة وثائقية رائعة بعنوان (طريق الحرير –الرحلة تبدأ من جديد) تابعت شخصياً عشرات الحلقات منها على مدى عامين وأغنتني عن قراءة ألف كتاب عن التاريخ والحضارات والعادات وتقاليد الأمم وثقافاتها وأحلامها والمشتركات العظيمة بين الشعوب الواقعة على مسار طريق القوافل العتيق.
قامت رؤية الصين – الساعية لتغيير توجهات آسيا نحو عصور الحداثة - على مشروع قديم يزيد عمره على ألفيْ سنة، وهو "طريق الحرير" الذي أطلق على مجموعة من طرق مترابطة كانت تسلكها القوافل والسفن بين آسيا وأوروبا ويبلغ طولها عشرة آلاف كيلومتر ، وكان هذا الطريق يمتد من الصين عبر آسيا الوسطى إلى شواطئ المتوسط ومن هناك يتجه بحراً إلى أوروبا التي كانت تستقبل البضائع الآسيوية الثمينة من التوابل والخزف والحرير الصيني والمجوهرات الثمينة .
وبموازاة هذا المشروع ، أطلقت الصين مئات المعاهد الثقافية حول العالم وأزدهر التبادل الثقافي والاقتصادي بينها وبين نحو سبعين دولة ، وقامت هذه المعاهد بتعليم للغة الصينية حاملة إرثها الرمزي والترويج للفن الصيني والصناعات الحديثة. ثم رسخت التعاون الاقتصادي بينها وبين دول أفريقيا ودول عربية ، فهي لاتهتم بطبيعة النظام الحاكم وأيديولوجيته ؛ فكل ما يهمها تأمين أكبر قدر من الاستقرار الأمني لتمارس الطرق وسكك الحديد والموانئ التي تؤسسها وأنظمة الاتصالات والمدن التجارية الحرة عملها بيسر وأمان وتعزز الاقتصاد الآسيوي في مواجهة التغول الغربي.