ستار كاووش
امتدت يدي نحو التخطيطات الكبيرة واللوحات التي افترشت أرضية الصالة، وبدأتُ أتحسس بأصابعي تقنياتها وخطوطها وطرق معالجة سطوحها. تَطَلَّعتُ إليها على مهل، محاولاً تَتَبُّعُ الخطوط المنسابة بنعومة ودراية، لأنسجم بعدها مع الملامح والوجوه المعبرة التي تحمل الكثير من الغموض والغرابة والخصوصية. هكذا بدت لي أعمال الفنانة زينة مصطفى سليم وأنا أشاهدها هذه المرة كأعمال أصلية بعد أن استهوتني وتتبعتها كثيراً كصور وعلى الانترنت. فأثناء زيارتي لمدينة تورونتو الكندية، كانت واحدة من أجمل الفرص، هي زيارتي لهذه الفنانة في بيتها ومرسمها، للإطَّلاعِ على أعمالها وعالمها الذي بنته وملأته بشخصيات فيها الكثير من روحها وعاطفتها ومظهرها ذاته، حتى بَدَتْ وكأنها واحدة من هذه الشخصيات التي ترسمها محاطة بالمظلات والقبعات والكمانات والعصافير والقلائد والمصابيح المتوهجة والبالونات الملونة وخصلات الشعر المتطايرة مثل أغصان شجرة متسلقة.
حين تَخرجُ اللوحات من أصابع كـأصابع زينة، فهناك إطمئنان للنتائج، بل هناك ثقة بالرسم. فأصابعها التي تتحرك بدراية وخفة وهي تقود المساحات، وتسحب الخطوط الى أماكن مناسبة، تعرف ببساطة، أين ستنتهي هذه الرقشات، وفي أية زاوية ستحط تلك الخطوط، لأنها ترسم بإنثيال وتدفق وهي تتبع خطوطها وتعابير وجوهها، واثقة من النتائج، وتعلم كيف سينتهي بناء اللوحة، وبأي حال سيكون التعبير.
أحرص دائماً أن أقضي وقتي بالقيام بأشياء تحمل قيمة ما، وهذا ما توفر لي بالفعل، وأنا أشاهد أعمال زينة ذات القيمة العالية، والتي لم تحصل على ما يوازي موهبتها الخاصة، بل المذهلة. فهي تملك موهبة الرسم بمعناه العميق، ولديها تقنية وأسلوباً يعكسان شخصية فنية تعيدنا الى اسماء لامعة في تاريخ الفن.
خلال سنواتي الطويلة مع الرسم ومتابعة الفن في المتاحف، كنتُ كمن يتبع طريدة بعيدة المنال، طريدة كانت تبتعد كلما عرفتُ أكثر عن عالم الفن وتَوَغَّلتُ في فضائه الرحب، ومازلت أتبع ذلك الخيط الخفي في غابة الفن، وأنا مأخوذ بسحر المقارنة بين التقنيات والأساليب والفروقات بين المواهب، وهذا ما يدعوني للقول، إن موهبة زينة في الرسم تعلو فوق الكثير من (المواهب) الموجودة الآن في الواجهة، ويمكن أن نضعها بين مَوهِبَتَيْ، الرسامة البولندية تمارا لامبيسكا والرسام النمساوي إيغون شيله، لما تحمله من مهارة وقوة وخصوصية وتأثير.
الأصابع في أعمالها تشير الى روح الشخصيات وتعكس انفعالاتها، وهي تستخدم هذه المفردة بطريقة فيها الكثير من التعبير، حتى بَدَتْ كأنها متحركة، مثلما تفعل ذلك مع العيون الشاخصة العميقة التي تنبثق من وجوه أبطال لوحاتها.
أثناء عملية الرسم، تضع زينة اللون على شكل طبقات خفيفة فوق بعضها، ونتيجة لذلك يظهر نوع من الشفافية التي تغطي السطوح والمساحات المتداخلة، ويسطع التأثير المناسب والحلول التشكيلية التي تبحث عنها، فلا دخل للنوايا الفضفاضة ولا المقاصد المبهمة في أعمالها، لأنها تدرك أن الرسم الحقيقي يعتمد على مانراه من نتائج، ولا يتعكز على نوايا غير محددة المعالم. لذلك فهي تعرف أين تضع قدمها في عالم الرسم، وأين تسير نحو ماتريده بالضبط، بشخصياتها الشاحبة أحياناً، والمتوثبة أحياناً أخرى، شخصيات تنظر في عين المتلقي، تغمرها بعض الفقاعات المتطايرة، والستائر التي يتخللها الضوء وهي تتمايلُ في فضاء اللوحة. هكذا ظَلَّتْ زينة تتبع مغامرتها وهي ترسم ناساً عرفتهم في الحياة أو أشخاصاً زخر خيالها بصخبهم، لتلقيهم في النهاية على سطوح القماشات، فيحولوا الضجيج الى موسيقى ويملؤوا قاعات المعارض بإيقاعات الخطوط والتدرجات اللونية.
لقد ساهم الكثير من الفنانين والفنانات في بناء معبد الفن العراقي، ووضعوا لمساتهم وعواطفهم وأرواحهم على هذا الجدار أو تلك الباحة، كانوا آلهة يمتهنون نغمات اللون وعذوبة الخط وفهم المساحات. والفنانة زينة مصطفى سليم تنتمي بالتأكيد الى هؤلاء، فهي قلادة تزين الفن العراقي... إنها زينة الفن العراقي.