TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > البرج العاجي: مراكش من الداخل

البرج العاجي: مراكش من الداخل

نشر في: 29 يوليو, 2018: 08:53 م

 فوزي كريم

في حديث سابق عن زيارة مراكش كتبت: "الشوارع في المدينة القديمة تتسع بسحر الخيال إلى كل الجهات: لأن الزنقات، والجدران، وأبواب البيوت، ومحلات التجار والحرفيين، تخفي سراً، لا يكف عن دعوتك إلى العبور. وكثيراً ما تعبر، فتجد ما لم تتوقعه." هذا هاجس عربي المشرق لديّ، الذي يجهل الطبيعة التي تطوي عربي المغرب، فرداً، مجتمعاً ومدينة. الرواية التي أصدرها ياسين عدنان (كاتب وإعلامي) بعنوان "هوت ماروك" كانت دليلي في هذا العبور إلى أسرار المدينة الخفية، التي بدت بصحبته، على غرائبيتها، ليست ببعيدة الشبه عن مدينتي، التي أعرف رغم المنفى الطويل. الفارق بين محاولة ياسين عدنان ومحاولة الروائي العراقي، إن الأخير لا يجرؤ على عرض فساد القاعدة، بمقدار استعداده لعرض فساد مؤسسة الحكم. حاول عالم الاجتماع علي الوردي ذلك، لأنه بدأ من القاعدة في الشارع العراقي، ثم ارتقى إلى تنظيماته وإدارته ونظامه. ولكن علي الوردي لم يكن روائياً. هذه واحدة من فضائل هذه الرواية.
في مطلع الرواية أتعرف على "وفيق الدرعي"، شاعر محتف بنفسه وبالحياة، بفعل احتياله. وأتعرف على "رحّال العوينة"، بطل الرواية، العاجز عن الاحتفاء بنفسه وبالحياة، ولكنه لا يقل عن غريمه احتيالاً. وبقدر ما كان وفيق حسير الخيال، كان رحّال طليق الخيال، وبصورة أعانت الكاتب على بناء روايته. فـ"رحال" منذ صباه " يصفي كل حساباته بالحلم." وتصفيته تتم بأن يسحب غريمه من ياقته إلى أسفل، ثم يرفع ركبته العظمية المسننة إلى الوجه فيدميه. حتى الرغبة الجنسية يُشبعها، وهو على زوجته، بامرأة يستحضرها في الحلم. إنه يرى نفسه فأراً بجدارة، ويرى كل من يعرف في مراكش حيواناً لا يقل عن الفأر قدراً: فأمه بجعة، وأبوه سرعوف، وعمه سنجاب، وزوجته قنفذة، والآخرون بين جرذ وجربوع وبقرة وضبع وكلب، ولبؤة وزرافة. حتى الأحزاب يراها على هيئة الأخطبوط، والناقة. حديقة حيوان، ولكن لا تنطوي على رمزية "جورج أورويل" في روايته المعروفة. فشخوص الأخيرة تكاد تكون رموزاً لأفكار تحيل إلى النظام الشمولي، في حين حديقة ياسين عدنان هي مراكش، وهو أحد أبنائها. وشخوصها هم أبناء مراكش، وهو واحد منهم. ولذلك فإن ألألقاب الحيوانية، وهي جميعاً سلبية، ليست رموزاً، ولا حتى أقنعة. إنها صدى واقعي للهاجس الشعبي في التنكيل، وتلقيب الآخر بما لا يحب. ولذلك تبدو في الرواية من نسيج رأس "رحّال" وحده. فالأحداث تتحرك بفعل حركته هو. حين كان طالباً كانت الرواية تدور حول الحياة الطلابية، وتشرذم الطلبة بين الأديولوجيات السياسية "الواهمة والإيهامية"، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وحين استلم عملاً في قلب المدينة، كمشرف على مقهى للإنترنيت تتحول الرواية إلى أحداث المدينة السياسية؛ صراع الأحزاب هذه المرة من أجل الفوز الانتخابي. ما كان لدى الطلبة ضرباً من التحليق في هواء الأفكار الإيهامية المجردة، صار لدى الأحزاب السياسية يمشي على قدمين، يسعى إلى النفوذ المالي بكل الوسائل الرديئة، وهي متاحة في قبضة الأثرياء الجدد، ورجال الأعمال والعقار والسلطة ذاتها. و"رحال" فاعل، لا يكتفي بالمراقبة. فهو، بسبب هيمنته الأنترنيتية، يُستخدم من قبل جهاز الأمن لإشاعة مزيد من التشويه حول أشخاص بعينهم.
الذي قربني أكثر من حياة مراكش الداخلية هو أسلوب ياسين وتدفقه النثري. فإلى جانب الصلابة في جملته العربية، فهي تعتمد المجاز في التعبير، وهو مجازٌ صلب بدوره. ما من التباس، وليد عبث لغوي. تجد الآية القرآنية تدخل السياق، كما يدخلها الحديث النبوي، أو البيت الشعري، إلى جانب الجملة العامية المغربية، بصورة تبدو طبيعة في لغته الروائية. وكذلك تدفق المجاز الذي يرد بعفوية على امتداد 560 صفحة. فـ"رحّال" يرغب لو يطيب خاطر أبيه (السرعوف)، حين تهاجمه أمه (البجعة) بقوله: " تهديدات حليمة مجرد ثرثرة وكلام فارغ، وعليه ألا يأخذها بعين الاعتبار. ثم إنها بجعة وليست أنثى السرعوف التي يمكنها أن تُداهم الذَّكر في أية لحظة فتأكل رأسه." هذا المجاز يضفي خفة دم ، دون اعتماد المفارقات اللغوية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram