ناجح المعموري
لا يمكن تجاوز ثنائية السلطة والثقافة أو اغفالها والتهوين من الملازمة بينهما، لأن السلطة نظام اجتماعي وسياسي وثقافي، يستوعب تمثيلات كل المكونات والمجالات الحاضرة في الحياة مع أهمية الانتباه لما تستدعيه ضرورات الحياة المستجدة والمُشكِّلة للإطار العام المنظم للعلاقة بين الأطراف والقوى المجتمعية. لأن السلطة تبرز واضحة من خلال تمثيلاتها بين الجماعات الصغيرة والكبيرة، والمجتمعات الممثلة للانتظام بين المكونات الاجتماعية والجماعات الأكبر، هذا أحد المفاهيم السيوسولوجية والثقافية لمفهوم السلطة.
أما الثقافة فهي التمظهرات الاجتماعية الدالة على حياة الأفراد والجماعات ، عبر الحقب والممثلة لما اتفقت عليه تلك الجماعات واختارته عاكسةً النمط الذي اختارته وأكدت عليه عبر التبادل . أو لعل التعريفات للثقافة ، ما قاله " ريموند ويليمز " وهي : سيرورة التطور الفكري والروحي والجمالي العامة ...... وربما يوحي الاستعمال الثقافي لمفردة ثقافة الى " طريقة حياة معينة ، سواء أكانت لشعب ما ، أو حقبة ما ، أو جماعة ما، ..... وأخيراً يقترح ويليمز إمكانية استعمال الثقافة للإشارة الى مؤلفات وممارسات نشاط فكري وفني ، بالدرجة الأساس .. بمعنى آخر إنها تلك النصوص والممارسات التي تتمثل وظيفتها الرئيسة بالتدليل أو الإنتاج ، أو تشكل فرصة لإنتاج المعنى ، والثقافة _ في هذا التعريف " مرادفة لما يطلق عليه البنيويون وما بعدهم تسمية الممارسات التدليلية" ولعلنا نستطيع _ باستعمال هذا التعريف _ التفكير بأمثلة ، كالشعر والرواية والبالية والاوبرا والفنون الجميلة ويعني التحدث عن الثقافة الشعبية / جون ستوري / ما الثقافة الشعبية / ضمن : الكرنفال في الثقافة الشعبية / إعداد وترجمة خالدة حامد / دار المتوسط / 2017/ ص16/17.
والرأي الأخير لجون ستوري بالغ الأهمية ، لأنه جعل من الثقافة الشعبية مركزاً بالغ الحضور ودائم الحضور ، لكن النظر إليه متباين ، والتعرف عليه مختلف بين فرد وآخر ، أو جماعة وأخرى . فالثقافة الشعبية ، لا تتسع فيها وجهات النظر بين الجماعات التي انتجتها واتفقت على تداولها والاستمرار على التواصل بها ، لأن ذلك يعني ضمناً توافق جمعي عليها . وهذا أيضاً لا يعني التوافق التام حولها . بل العكس ، لأن الثقافة عموماً والشعبية خصوصاً تفقد حيويتها . وتعدد الآراء حولها يعطيها القوة واحتمالات كبيرة للتطور الذي يستدعي اتساع فضاء التداول .... وفي مثل هذه الحالة التي ترومها الثقافة الشعبية ، تنتبه السلطة الى ما يجري فوق السطح الاجتماعي وتبدأ بالانشغال بها وكيفية مراقبتها ووضع الخطط والآليات لتوظيفها بهدوء تام ، حتى لا تضع _ السلطة _ في مواجهة ذات طابع سياسي وبقوة . وباختصار شديد يمكن التعامل مع الثقافة الشعبية كصورة للعالم كما قال برتولد برخت.
تدرك السلطة بوعي وخبرة من أن الممارسات الثقافية الشعبية هي الأخطر في التعبير عن أحلام الجماعات لأن الناس تدخل ضمن الإنتاج الاجتماعي لوجودهم ، في علاقات ضرورية محددة ، تكون مستقلة عن إرادتهم وأعني بها _ تحديداً _علاقات الانتاج التي تقابل مرحلة معينة من تطور قوي إنتاجهم المادي ويشكل مجموع علاقات الإنتاج هذه بنية المجتمع الاقتصادية ، أي الأساس الحقيقي الذي تقوم عليه بنية فوقية قانونية وسياسية تتوافق معها أشكال محددة من الوعي الاجتماعي . ويتحكم نمط نتاج الحياة المادية بسيرورة الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية عموماً / جون ستوري / ن .م / ص19//
كما أشار كارل ماركس الى أن وعي الناس لم يكن هو المشارك في ترسيم وتحديد كينونتهم بل العكس من ذلك ، كينونتهم الاجتماعية هي التي تحدد وعيهم .
وينطوي رأي ماركس على أن الطريقة التي ينظم بها المجتمع وسيلة انتاجه الاقتصادي أثر حتمي على نوع الثقافة التي ينتجها ذلك المجتمع ، والتي يجعل إنتاجها ممكناً ، وتعد المنتجات الثقافية لما يسمى بالبنية الفوقية / القاعدية أيديولوجية الى الحد الذي تقوم فيه ، نتيجة لهذه العلاقة ، بالدعم الضمني أو العلني لمصالح الجماعات المهيمنة / جون ستوري / ن.م/ص198//
من هذا الرأي نستطيع الاقتراب أكثر لستيورات هول الذي قال بأن الثقافة الشعبية هي النمط أو الأنموذج السائد وسط الجماعة ، هو الذي يحدد الآراء والأنماط والسلوكيات والأفكار . كما أشار الى إنها _ الثقافية الشعبية _لها علاقة مباشرة بسياسية التدليل " أي محاولة استمالة القراء الى طرق معينة لرؤية العالم / جون ستوري ن.م/ ص21//
ومن المفيد إعادة التذكير لتعريف ستوري لسياسية التدليل الدال على الأنواع الأدبية والفنية التي تتبادلها الجماعات جمالياً ومعرفياً .
ونظراً لارتباط الثقافية الشعبية مع وسائل الإنتاج المادية ، هي أيضاً تبديات تمثيلية عن أحلام وطموحات الجماعات وموقفها من السلطة ، معبرة عبرها _ الثقافية الشعبية_ بشكل صريح أو ضمني بواسطة العروض المسرحية الكوميديا أو لمرويات الهزلية التي تعامل معها ريموند ويليمز بوصفها ثقافية شعبية معيشة ، مثلما هي ممارسات تعكس المواقف الآتية للجماعة مما يجري في الحياة المجتمعية والاقتصادية والسياسية المباشرة ، بمعنى تتحول هي _ الثقافية لشعبية _ الى مرايا عاكسة بضبط ودقة .
ومثلما قلنا بأهمية وضرورات مثل هذه الثقافية الشعبية لتمثيل الحاجات اليومية للجماعة ومعبرة عن أحلامها وطموحاتها ، لابد من التنبه لما تكمن فيها من خطورات ظاهرة وليست كامنة ، ممثلاً لها بالعودة الى عتبات بدئية وأصول قديمة جداً في مجال العلاقة بالمقدس وتوظيف عقائده وطقوسه لتمثيل الجماعة المؤمنة بها بشكل متطرف ، بحيث تجعل منها مهيمنات كبرى ، تمتلك امكانات قوية من اجل وظيفة متضادة مع الجماعة لتعطيلها عن القيام بوظائفها التخيلية في الحياة والاكتفاء بالمقدس وظواهر متعطلة لأحلام الآخر وسيادة الخرافة لنمط " التنافس لاستبعاد الأسطورة بوصفها تأويلية الشك كما قال بول ريكور : لأن الأسطورة بشبكاتها الرمزية الواسعة قادرة على تغذية الروح الجمعية بالثقافة والجمال .
عبر اللغة ، لأن الأسطورة تتجاور معها ، مثلما اللغة تغذيها بالطاقة ولا يمكن التفكير بفك الاشتباك بينهما وعودة على دور طقوس الرثاء في تعطيل مزاولات الأساطير كأحلام دائمة التواجد ، إذا كانت الجماعة مدركة لأهميتها . من هذه الزاوية ، اذا كانت تظهر العلاقة بين اللغة والأسطورة . فهي لم تعد مجرد قضية اشتياق إحدى هاتين الظاهرتين من الأخرى أو تفسيرها من خلال الأخرى ، لأن هذا يعني تسويتهما معاً ، وتجريدهما من ملامحهما المميزة ، وإذا كانت الأسطورة ، كما تصورها ماكس مولر ، حقاً مجرد الظل المعتم الذي تلقيه اللغة على الفكر ، فأن اللغز يكون فعلاً في وجوب ظهور هذا الظل دائماً في هالة نوره الخاص ، وانطوائه على عنفوان وفاعلية ايجابية خاصة به ، تميل الى طمس ما نسميه ، في العادة _ بواقعية الأشياء المباشرة / ارنست كاسيرر / اللغة والأسطورة / ت: سعيد الغانمي / مشروع كلمة / 2009/ص31_32//
اعتقد بأن ولع الجماعات المبالغ فيه بالطقوس الدينية متأتٍ من كونها سرداً لأن قراءة الطقوس الشعبية بدقة تكشف صفتها السردية بوضوح تام وقد كتبت حول ذلك في المدى والصباح . وبالقدر الذي تتمتع فيه الطقوس الشعبية من امكانات تجمع كل الجماعات مع الدين –تمظهراته الخرافية – تجد إنها تغلق الأبواب تماماً أمام الأسطورة ، لسبب مهم ، هو أن الاسطورة تتمتع بأفق غائي ومستقبلي كما قال ريكور هذا الأفق المستقبلي ، منح الأسطورة تواجداً في الزمان وحضوراً في التاريخ الذي ارتضى باستعارية لها ، لأنه / التاريخ / لا يقاوم الاندثار ، إلا من خلال الاستعانة بالأسطورة الباقية للابد . ولأن الزمانية بنية الوجود التي تصل اللغة في السرد . وإن السردية هي " بنية اللغة التي تكون الزمانية مرجعها الأخير وهذا ما كشف عنه بول ريكور في مقاله " الزمان السردي " الذي يشير بوضوح الى أن دراسته حقيقة السرد تقوم على فكرة الطبيعة السردوية للزمان نفسه ... "
ليس الخلاف أن يفرض المؤرخون صيغة سردية مجموعة أو متواليات من الأحداث الواقعية التي يمكن تمثيلها بما لا يقل شرعية ، بل أن الأحداث التاريخية تمتلك البنية نفسها التي يمتلكها الخطاب السردي / تحرير ديفيد وورد / ت :سعيد الغانمي / الوجود والزمان والسرد / فلسفة بول ريكور / المركز الثقافي العربي / بيروت /1999/ ص188 – 189 .
التشارك باللغة الاستعارية بين الأسطورة والتاريخ والتحبيك ، توفر امكانية لتقوية حضور التاريخ وتحوله الى مرويات تحتفظ بها الذاكرة وتقاوم النسيان ، لأن الجماعات تتعامل معه باعتباره خاصاً بهم وتظل متناقلة له . ويحوز التاريخ صفته السردية وهذا هو الجانب الحيوي والجوهري .
هذه الصفة السردية ذاتها من خاصيات الخطاب السردي . وطبيعتها السردية هي التي تميز الأحداث التاريخية من الأحداث الطبيعية . ولأن أحداث التاريخ تمتلك بنية سردية ، فللمؤرخين الحق في اعتبار القصص تمثيلات صادقة على هذه الأحداث ، ومعاملة هذه التمثيلات بوصفها تفسيرات لها / تحرير ديفد وورد / ن . م / ص 189 .
لم تأت الثقافة الشعبية من فراغ ، بل نتاج الوجود البشري بتنوعاته ، لذا يرتضى الفرد أو الأفراد المنتج الثقافي المعبر عن تفاصيل الحياة الاجتماعية / والأسرية / والاقتصادية ، الممثل لها بالأغاني / والأمثال / والحكايات والرسوم والصناعات الشعبية / الازياء / واشار " مارسيل ديتيان " ان كل ابداع " ادبي " وكل قصة محكية ، هي إنتاج شخصي ، وما أن تغادر شفتي الراوية الأول حتى تندرج ضمن التراث الشفوي ، أو على الأقل حتى تتلقى اختبار أفواه وآذان الاخرين . إذ ما الذي يجري لكي تصبح هذه القصة غير منسية ؟ لإعطاء فكرة عن ذلك ، تقيم كلود ليفي _ شتراوس تمييزاً بين المستويات المهيكلة والمستويات الاجتماعية / مارسيل ديتيان / اختلاف الميثولوجيا / المنظمة العربية للترجمة / 2008/ ص125//
وأجد من الضروري جداً الإشارة الى تنوعات الأدب الشعبي والثقافة الشعبية بوصفها استجابة للظواهر والقوى الطبيعية غير المشخصة بشكل جيد . وهي استجابة آنية لقلق الأفراد والجماعات .
وبما أن الثقافة الشعبية من ابتكارات الأفراد ، فهي إذن تمثيل الهوية الخاصة بهم وهي الخصوصية الذاتية التي يدافع الأفراد والجماعات عنها : والهوية الفردية تمثل بالتصور والتخييل الذي يضفيه الفرد على ذاته ويتم بناؤها وتطويرها في الوعي الفردي . أما الهوية الاجتماعية فهي تمثل التخيل والتصور الجماعي عن تلك الذات المشتركة . بمعنى اخر انها خزان الذاكرة الجماعية وفي ضوئها يحدد الأفراد وجودهم وانتمائهم .الهوية الاجتماعية يتم صنعها وعلى ضوء الأسطورة ، التاريخ والمخيلة دون أن تنس دور المؤسسات في تلك الصناعة كالجوامع والحسينيات / د. فالح مهدي /البحث عن جذور الاله في نقد الأيديولوجية الدينية / دار العودة / 2017 /ص157//