د. ضياء نافع
توفي تشيخوف عام 1904 , وأول تمثال له – وياللغرابة !- تم تدشينه في ألمانيا عام 1908 , وفي المدينة التي توفي فيها , أما في وطنه روسيا , فقد نسوه , بسبب الأحداث الجسام التي مرّت بها روسيا منذ ثورة 1905 ثم الحرب العالمية الأولى 1914 ثم ثورة اكتوبر1917 ثم الحرب الأهلية التي اعقبتها ثم المرحلة السوفيتية الصعبة في العشرينيات , وتذكرته روسيا في الثلاثينيات , عندما استقر الوضع فيها نسبياً , وهكذا ظهر أول تمثال لتشيخوف في المدينة التي ولد فيها وهي (تاغنروغ ) في جنوبي روسيا عام 1935 , وهو تمثال نصفي تم وضعه أمام البيت الذي عاش فيه تشيخوف, وقد حضر في حفل افتتاحه أقاربه , وقصّت شريط افتتاح التمثال أخته مارينا , واندهشت ( مع زوجته الفنانة المسرحية اولغا كنيبر- تشيخوفا ) من دقة تشابه وتطابق التمثال مع ملامح تشيخوف نفسه . وقد تم استنساخ هذا التمثال بعدئذ في معمل البرونز في مدينة تاغنروغ نفسها, ووضعوا النسخة المستنسخة في ساحة المدينة الرئيسة ( الساحة الحمراء)عام 1944 , إلا انهم أزالوه بعدئذ ووضعوا بدلاً عنه تمثالاً ضخما لتشيخوف عام 1960 بمناسبة مرور مئة عام على ميلاده , وهو التمثال المركزي ( إن صحت التسمية) لتشيخوف في روسيا و لحد الآن , وليس من باب الصدفة أبداً , أن سافر الرئيس الروسي آنذاك دميتري مدفيديف خصيصاً من العاصمة موسكو الى مدينة تاغنروغ كي يضع باقة ورد عند هذا التمثال , وذلك عندما احتفلت روسيا بذكرى مرور ( 150) سنة على ميلاد تشيخوف عام 2010 , وهو حدث لم يتكرر في تاريخ الأدب الروسي أبداً, ولا نرى إن هناك ضرورة للتعليق حول عملية التكريم هذه واهميتها من جانب الدولة الروسية لرجالات الادب والفكر فيها.
التمثال المركزي هذا يقع في مركز مدينة تاغنروغ , ويصوّر تشيخوف جالسا على كرسي وبيده اليمنى كتابا, ويبلغ ارتفاع التمثال اكثر من ثلاثة أمتار وارتفاع قاعدته أيضاً أكثر من ثلاثة أمتار, وتحيطه حديقة غنّاء , وقصة هذا التمثال بدأت عام 1904 , أي في سنة وفاة تشيخوف , عندما توجهت مجموعة من وجهاء المدينة بنداء الى مجلس الدوما آنذاك , يطلبون فيه الموافقة على وضع نصب لابن مدينتهم تشيخوف ( والتي أصبحت مدينة مشهورة بسببه), ويعلنون عن تشكيل لجان لجمع التبرعات اللازمة لتنفيذ هذا المشروع , وقد وافقت السلطات المحلية على هذا الطلب في حينها, وتم جمع تبرعات من اجل تنفيذه , وتم نشر اسماء المتبرعين في الصحف المحلية فعلا , إلا أن الاحداث العاصفة في روسيا (كما أشرنا آنفا) حالت دون ذلك , وهكذا تم افتتاح التمثال النصفي أمام بيت تشيخوف عام 1935 , وعلى الرغم من ذلك , تم وضع حجر الأساس في مركز المدينة لذلك التمثال من قبل أخت تشيخوف , إلا أن الحرب العالمية الثانية حالت دون تنفيذه , وهكذا وضعوا نسخة من التمثال النصفي كما مرّ ذكره, وعادوا الى تنفيذ الفكرة عام 1960 في الذكرى المئوية لميلاد تشيخوف .
بدأت تماثيل تشيخوف تتكاثر في المدن الروسية المختلفة , وخصوصا في تلك المدن التي ارتبط بها بشكل أو بآخر , وأهمها طبعا سخالين , التي زارها كما هو معروف وكتب عنها كتابه الشهير – جزيرة سخالين , إذ تم أولاً افتتاح تمثال نصفي له عام 1959 في الكساندرفسكي – سخالينسكي, ثم تمثال نصفي آخر في عام 1975 في جزيرة سخالين نفسها , ثم في مناطق أخرى هناك في أعوام 1990 و1994 و1995 و2000 , ثم ظهرت تماثيل أخرى في مدن روسية عديدة منها – تومسك ورستوف وسامارا وميليخوفو ... , ومن الطريف أن نتوقف هنا قليلاً عند تمثاله في مدينة تومسك , إذ إنه تمثال كاريكاتيري غير اعتيادي بالمرّة , وعنوانه – ( انطون تشيخوف بعيون رجل سكران يرقد في ساقية ولم يقرأ قصة كاشتانكا ) , ويرى بعض الباحثين ان هذا التمثال الكاريكاتيري جاء مضاداً لتشيخوف لأنه وصف المدينة في إحدى رسائله وصفاً سيئاً , ولكن أكثرية الباحثين يرون العكس , ويعتقدون إن مدينة تومسك قدّمت لتشيخوف تمثالاً فريداً جداً , إذ لا يوجد في روسيا أي تمثال لأي كاتب بهذا الشكل, وقصة كاشتانكا الشهيرة لتشيخوف ( والتي جاءت في عنوان هذا التمثال ) تتحدث عن كلبة بهذا الاسم ضاعت من صاحبها ويصف تشيخوف معاناتها وحتى مزاجها , ثم وجدها صاحبها بعدئذ, و يكتب تشيخوف كيف عرفته وعادت اليه , وهي قصة معروفة جداً في أوساط القراء في روسيا وخارجها , وقد كتب ايليا ايرنبورغ مرة عن هذه القصة يقول , إن والدته قد هزّته وهي تخبره عن وفاة تشيخوف وتقول له – ( لم يعد موجوداً ذلك الإنسان الذي كتب قصة كاشتانكا ).
ولابد من التوقف أخيراً عند تمثال تشيخوف في موسكو طبعاً , هذا التمثال الذي تم تدشينه عام 1998 عندما احتفلت روسيا بالذكرى المئوية الاولى لتأسيس مسرح موسكو الفني , الذي يرتبط بستانسلافسكي ونميروفتش دانتشينكو , المسرح الذي قدّم من جديد مسرحية تشيخوف الشهيرة – ( النورس ) وأعاد لها المجد ( وما زالت الستارة في هذا المسرح لحد الآن تحمل صورة النورس) , وهي قصة معروفة في تاريخ المسرح الروسي والعالمي . تمثال تشيخوف هذا يقف أمام بناية المسرح القديمة , وهو من البرونز وقاعدته من الغرانيت الأحمر , ويمثّل تشيخوف واقفاً برشاقته وتواضعه وهو في حالة تأمل ...